لا تزال حرب الإبادة مستعرة في غزة ولا أمل أن تنتهي سريعا ولن يقاس حساب الربح والخسارة بمألوف المقاييس العسكرية بحكم عدم التكافؤ الصارخ بين طرفي النزاع وأما المثقف فمن مهامه العاجلة أن يسجل الحصيلة المنطقية لهذا الصراع وأن يجري تقييما للبنية البرهانية التي قام عليها خطاب كل طرف فمن جهة تنبني الرواية الإسرائيلية على شعارات مفادها أن طوفان الأقصى بمثابة تهديد وجودي للكيان متكئة على مبدأ ضرورة الدفاع عن النفس لتبرير آلاف المجازر دون أن يرف لها جفن عن طبيعة الضحايا الذين ارتكبت في حقهم فالمنطق يقتضي أن يتجه الدفاع عن النفس إلى من يمثل تهديدا مباشرا غير أن يد الآلة الحربية الإسرائيلية امتدت إلى كل من طاولته من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء وحتى الأشجار والمدارس والمساجد والمستشفيات ولذلك فما يرتكبه كيان الاحتلال هو انتقام قوة غاشمة ليس فيه أي شكل من أشكال الدفاع وهذا أول تهافت منطقي ثم إذا فحصنا هذه الحرب من زاوية المنظور القانوني فإن تبعات عملية السابع من تشرين الأول أكتوبر ينبغي أن تقع حصرا على القائمين بها لمحاكمتهم إن توفرت الأدلة القاطعة وقد تعتبر في أسوأ الحالات جريمة حرب لا أن يسود قانون الغاب فتهب آلة الحرب الإسرائيلية بأكملها لتعمل على إبادة مجتمع محاصر ولم تلتفت هذه الآلة إلى القانون الدولي حين بدأت قصفها العشوائي على قطاع غزة في حين أن نفس هذا القانون يوظف حسب حاجة الدولة العبرية لحمايتها وفتح المجال لمزيد من التدمير بدعم من الفيتو الأميركي في مجلس الأمن وتبرير من قادة الدول المناصرة للاحتلال وما ذلك بغريب عنها فمعظمها قوى استعمارية سابقة كانت تبيد قبائل بأكملها بجرائر وهمية استناد إلى المحرقة لاقتراف جرائم في حق شعب أعزل كما بررت إسرائيل فظاعة هجومها بما تعرض له مستوطنون في غلاف غزة على أيدي مقاتلي كتائب القسام من قتل أو أسر وفي هذا تضليل كبير فلو سلمنا بارتكاب أفراد ما جرائم في حق المحتجزين فقد يكون ذلك عملا معزولا يعاقب فاعله فقط ولا يحطم قطاع بأكمله من المدنيين الذين لم يشاركوا في العملية ولا في ما يكون قد حصل خلالها من انتهاكات وعندما يسأل الإسرائيليون عن الضحايا المدنيين يجيبون باستحالة تجنب الأضرار الجانبية ترجمة لمصطلح تقني غامض Dommage collatéral ظهر إبان حرب فيتنام وكأنه برهان قائم بذاته يشرع لأي جريمة في حين تثبت التحاليل العسكرية أن ما ارتكبه جيش الاحتلال من مذابح طاول الخسائر الجانبية وحدها ولم يحقق أيا من أهدافه العسكرية المعلنة من استرجاع للمحتجزين وتفكيك لقوة المقاومة الفلسطينية ولا يتوقف تهافت المنطق الصهيوني عند تبرير الحرب على غزة بل يمتد إلى محاربة كل من يدين تلك الحرب في أي مكان من العالم وهنا يستفيد الكيان الإسرائيلي من مقولة معاداة السامية في معظم البلدان الغربية وهي في حد ذاتها مغالطة صارخة تخلط بين الدين اليهودي وكيان الاحتلال فـإسرائيل لم تحارب البتة لأن شعبها يدين باليهودية بل لأنها كيان محتل ومن التلاعبات المنطقية الأخرى استحضار مأساة المحرقة وهي فظيعة وتستدعي أن يحاسب مرتكبوها وقد شفى الإسرائيليون غليلهم من قادة النازية لكنهم استندوا إلى المحرقة ليقترفوا مآسي بأرض أخرى وفي حق شعب أعزل لم تكن له في هذه الجريمة ناقة ولا جمل وكما نرى فإن المنطق علما وحسا سليما لا يقف في صف أي من تبريرات إسرائيل فلماذا تسري هذه الأطروحات بين عقول كثيرة وتكسب في صفها أصحاب القرار حتى إن بعضهم بات صهيونيا أكثر من الصهاينة أنفسهم فإن كان للمنطق دور في اللحظة الراهنة فهو أن يجعلنا نوقن أن حكومة الحرب الإسرائيلية لن تترك محظورا إلا وترتكبه ولا قاعدة قانونية أو أخلاقية إلا وتدوسها في تحد صارخ لكل المواضعات الإنسانية وعلى العالم أن يتحمل العبء النفسي والأخلاقي لهذه المقتلة المضاعفة عسكريا وذهنيا والتي نعيش فصولها يوما بيوم لم يفعل الطلاب المتظاهرون سوى الاستماع إلى صوت المنطق وعلى كل لم تراهن إسرائيل أبدا على القوة المنطقية لسردياتها وإنما على ترسيخها بعدة ألاعيب بحيث تبدو أمرا واقعا وتلك إحدى الآليات التي شرحها رولان بارت في كتابه ميثولوجيات حين تتحول علامة تجارية أو ممارسة ثقافية ما من مجرد منتج بشري إلى ما يشبه معطيات الطبيعة فرضا لرؤية جزء على المجموع فقد عملت إسرائيل منذ عقود على تسويق سردية ظاهرها متماسك سداها مبادئ دارجة في الغرب كالقول إنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق أو أنها حارسة الرفاه الذي تعيشه مجتمعات الغرب التي تهددها نهضة الأمة العربية الإسلامية كما يعمل هذ الخطاب على التلاعب بأحجام الأحداث والسكوت عن وقائع والإقرار بأنصاف الحقائق مع تضخيم للعناصر الملائمة له وإخفاء تلك التي تناقضه وبهذا الاعتناء الدقيق بخطابها غزت إسرائيل عقول الغربيين وهم غير تواقين للتحري في الحقائق لا سيما إذا تعلق الأمر بقضية مثل فلسطين بعيدة جغرافيا عنهم كما عمل كيان الاحتلال على إعطاء خطابه طابع البداهة التي تفرض نفسها على العقول والقلوب مستفيدا لعقود من غياب خطاب مضاد ينتجه الضحايا لكن الانتفاضات الطلابية التي شهدتها جامعات كثيرة في العالم أثبتت إلى حد كبير أن المغالطات المنطقية التي قامت عليها الأطروحات الإسرائيلية قد تهاوت ولم تعد تجد آذانا صاغية وأن العالم الجديد الذي يمثله الطلاب قد وقف على زيف المقدمات التي تدفع بها الصهيونية العالمية وبالتالي فإن النتائج التي تصل إليها من تبرير للاعتداء على الفلسطينيين باتت في حكم الساقط ولم يفعل الطلبة المتظاهرون سوى الاستماع إلى صوت المنطق ورؤية الحقيقة في عرائها كما كانت عليه منذ سبعين سنة وكذا ينبغي أن يفعل الكثير من مثقفي الغرب ممن انحازوا دون روية للسردية الإسرائيلية لكن إلى أي حد يمكن التعويل على هذا الوعي الطلابي العالمي في تفكيك السرديات الإسرائيلية لقد نهضت كتابات عبد الوهاب المسيري وإدوارد سعيد وروجيه غارودي ونقتصر هنا على الأسماء التي انتشرت أفكارها عربيا بهذه المهمة ولكنها لم تمنع الصهيونية من التمادي في أغاليطها ينبغي اليوم توجيه الجهود نحو آليات الترسيخ التي تسند المغالطات المنطقية فتجعل منها بداهات مقبولة لدى البعض فما تطرحه الصهيونية على شعوب العالم لا يعدو أن يكون أفاعي اختلقها سحرة السياسة والإعلام فخلبوا أعين الناس واسترهبوهم وفي هذا السياق تصدق مقولة مريد البرغوثي نحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق لقد خسرناها بالإكراه وبالقوة كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس