ثمة حب
ثمّة حبٌّ لا يُمسك باليد، ولا يُقال له؛ تعال نسكن تحت سقفٍ واحد. حبّ يولد في المسافة ويكبُر فيها. يزدهر بالحرمان كما تزدهر الزهور البرّية في تربةٍ قاحلةٍ لا تنتظر المطر. هناك كثير من المشاعر التي لا تعرف طريقها إلى الملكية، لكنها تعرف تماماً كيف تُنير العتمة في أعماقنا.
نحن الكائنات التي تتوهّم أن الحب يُقاس بالقرب، وأن المسافة خصمٌ لا حليف، وأن الغياب نقيض الوجود، غير أن التجربة تُعلّم المرء أن بعض البُعد أصدقُ من الحضور، وأن اليد التي لا تُصافحك قد تكون أدفأ من آلاف الأيدي الممتدّة، وأن القلب الذي يراك من بعيد قد يحبّك بطريقة أصفى من قلوبٍ كثيرةٍ تزاحمك في المسافة.
في لحظةٍ ما، يدرك المرء أن الحياة لا تهبنا كل ما نشتهي، بل تمنحنا أحياناً دروساً في التخلّي توازي في عمقها دروسَ الامتلاك، فليس كل حبٍ يُروى بالبقاء، ثمّة حبّ لا يعيش إلا على ضوء الفقد، لأن قربه يُطفئه، كما تُطفئ اليد شمعةً تحاول حمايتها من الريح. وفي هذا الإدراك المؤلم يكمن جمالٌ لا يُقال، لأن فيه نوعاً من الصفاء الذي لا يُكتسب إلا حين يتخفف القلب من أنانيته، ويتعلم أن يحب بلا شرط، وبلا أملٍ في المقابل، وبلا انتظارٍ للنتيجة.
الحبّ الذي لا يُمتلك لا يقلّ صدقاً عن ذلك الذي تُعاش تفاصيله كل صباح، لكنه أكثر شفافية، كالماء الذي لا يُمسك، وكالهواء الذي لا يُرى. هو تجربة داخلية خالصة، لا تُعرض على الناس ولا تُفسَّر لأحد. إنه حبّ يحيا فينا كصلاةٍ سرّية، نردّدها بلا صوت، لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار، بل لأن القلب لا يعرف غير هذا الشكل من الإيمان.
يُقال إن البعد يُضعف العاطفة، لكن ثمة بعداً يصقلها. يُزيل عنها ما هو طارئ، ويتركها عاريةً أمام حقيقتها الأولى. وحين لا نستطيع امتلاك ما نحب ولا نقدر على أن نقترب ممن نحب، نتعلّم أن نحب كما يجب، لأننا نتحرّر من الغيرة، ومن رغبة السيطرة، ومن تلك النزعة القديمة في أن نُعيد
ارسال الخبر الى: