في عالم التحليل النفسي ثمة عارض مرضي ويتطلب علاجا إكلينيكيا أو سريريا يسمى Idealization أو إضفاء المثالية وإسباغها على شخصيات معينة في حياة فرد ما قد تكون عامة كعلماء ومفكرين وسياسيين أو خاصة كالوالدين والأصدقاء ثم التعرض لصدمة بهم وبمواقفهم إن ثبت أنهم لم يكونوا على مستوى المثال الذي افترضه المعني فيهم خطورة إضفاء المثالية على آخرين أنها تخرجهم من سياقهم ونسقهم الإنساني النسبي وترفعهم إلى مستوى قريب من الكمال إن لم يصل في حالات إلى القداسة بحيث لا نعود نرى عيوبهم أو أننا نتغاضى عنها متعمدين وعند التعرض لصدمة بهؤلاء المثاليين ووقوع افتراق لديهم بين المبادئ والسلوك نكون أمام ثلاثة أنواع من الرد من المصاب برهاب الترميز والتقديس للأفراد فهو إما أولا أن يعيش حالة إنكار ويستمر في دفاعه عمن يتخيلهم مثاليين ملتمسا لهم الأعذار مهما كان الانحراف عندهم وإما ثانيا أن يعلي من شأنهم على حساب المنهج الذي رمزهم على أساسه ورفعهم إلى مستوى المثال بحيث يصبح المثال الفرد المزعوم حكما على الفكرة والمبدأ والموقف لا العكس وإما ثالثا أن يكفر المصاب برهاب الترميز والتقديس والذي يعاني عادة حسب التحليل النفسي الإكلينيكي في هذا السياق من الشعور بالدونية واحتقار الذات يكفر بالمشروع والمبادئ كلها وينقلب عليها ليس ما سبق كلاما نظريا أو سفسطة ولا هو حتى كلام تقني بل هو واقع نعيشه ونرى تجلياته وتعقيدات تكييفه بشكل متكرر وفي أكثر من صيغة من ذلك مثلا ذلك الجدل الذي ثار على مواقع التواصل الاجتماعي عن خطبة عرفة السبت 15 يونيو حزيران الماضي والتي ألقاها إمام المسجد الحرام وخطيبه الشيخ ماهر بن حمد المعيقلي في مسجد نمرة في خطبته تلك والتي تحمل رمزية هائلة في الإسلام حيث يجتمع مئات آلاف الحجاج على صعيد عرفات لم يتطرق المعيقلي إلى الحال الكئيب والبائس والدامي الذي تحياه الأمة المسلمة لم يتطرق الشيخ إلى ما يجري من مجازر وإبادة وتجويع في غزة لم يتحدث عن مآسي ومخازي السودان وسورية أين تذبح الشعوب ويعتدى عليها بأيدي بعض من أبنائها غابت كذلك معاناة المسلمين في كشمير وميانمار ولم يكن هناك حديث عن القمع والفساد والنهب ومصادرة حقوق الشعوب العربية والمسلمة في بلادها لم يحضر أي من ذلك في خطبة الشيخ اللهم إلا إشارة عابرة إلى غزة في الدعاء التي كان أهلها يذبحون وهو يخطب ادعوا لإخواننا في فلسطين الذين مسهم الضر وتألموا من أذى عدوهم سفكا للدماء وإفسادا في البلاد ومنعا من ورود ما يحتاجون إليه من طعام ودواء وغذاء وكساء هكذا قال المعيقلي لست هنا في صدد تقويم الخطبة ولكن اللغط الذي أثارته يحيلنا إلى إشكالية إضفاء المثالية وإسباغها على الفرد وجعله حكما على المنهج والمبدأ بدل أن يكونا حكما عليه إضفاء المثالية وإسباغها على شخصيات عامة وجعلها حكما على الفكرة والمبادئ والمواقف والقيم حتى حين تنحرف عنها منهج وسلوك خطير لنتجاوز هنا الذين لا يتقنون إلا فن الشتم واختزال الناس في موقف أو بضع مواقف وإغفال الخير الأعم عندهم ليس هذا مكان مناقشة تلك العقلية المسكونة بالأمراض والعقد والنزق من دون إغفال خطورتها وضرورة التنبيه إليها في سياق مستقل ما يهمنا هنا مناقشة أحد أطراف النقيض المتطرف الآخر الذي يتخندق وراء رمزية مدعاة لمن نصبوهم هم أنفسهم مثالا وحكما على المنهج والمبادئ والمواقف مباشرة تصدى هؤلاء للرد كثير منهم بصلف وعناد على المنتقدين لمستوى خطبة عرفة لم يحرك المهووسون بالترميز والتقديس لمن هم ليسوا أهلا لهما الغيرة على ما يمثله الشيخ المعيقلي بل شخص المعيقلي نفسه إماما للمسجد الحرام وقارئا ذا صوت جميل لكتاب الله عز وجل في غمرة هذا تناسى هؤلاء ما يأمر به القرآن الكريم الذي رفع ذكر المعيقلي بفضله من وحدة الأمة وحرمة دمائها وتكافؤها وهم لم يلقوا بالا إلى جلالة الموقف وعظمته ورمزيته إذ إنه خطب من حيث خطب الرسول عليه السلام خطبة الوداع يوم عرفة وكان مطلعها أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا يوم عرفة في شهركم هذا شهر ذي الحجة المحرم في بلدكم هذا مكة المكرمة ألا هل بلغت اللهم فاشهد أترى أجعل المعيقلي ومن يصرون على إضفاء المثالية عليه وعلى من هو مثله القرآن وسيرة الرسول الأكرم حكما عليهم أم العكس مرة أخرى ليس هدف هذا المقال الانتقاص من قدر أحد ولا اختزال أحد في موقف أو بضع مواقف وإنما التنبيه إلى أنه لا بد من محاكمة الشخصيات العامة على أرضية تمسكها والتزامها بما تدعو إليه وما تمثله وليس محاكمة الأفكار والمبادئ والمواقف على أساس من يدعي تمثيلها بغير ذلك تسقط قيمة المنهج والفكرة والموقف في سبيل الحفاظ على قيمة المثال الفرد المزعوم حتى الرسول عليه السلام خضع للميزان والمنهج نفسيهما تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين الحاقة 43 47 وكذلك وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين آل عمران 144 وكما جاء في الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا تعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله خطورة إضفاء المثالية على آخرين أنها تخرجهم من سياقهم ونسقهم الإنساني النسبي وترفعهم إلى مستوى قريب من الكمال هناك من سيقول مجادلا عن علماء ومفكرين وسياسيين ومؤثرين ممن يسقطون في اختبار المواقف تفهموا ظروفهم والضغوط الممارسة عليهم ولا تختزلوهم في موقف هنا وموقف هناك من ناحية يمكن تفهم ذلك جزئيا لكن التعميم منطق سقيم إذ بذلك لن يبقى من الدين والمبادئ والقيم والمواقف شيء ثم إن ذكر الشخصيات العامة علا بين الناس بما يفترض أنهم يمثلونه من منظومات قيمية وأخلاقية ومواقفية واستتباعا ليس من العدل أبدا أن يكونوا رابحين دائما حين يحسنون وحين يسيئون التقديس والترميز حيث لا ينطبقان وفي إضفاء المثالية وإسباغها على شخصيات عامة وجعلها حكما على الفكرة والمبادئ والمواقف والقيم حتى حين تنحرف عنها منهج وسلوك خطير إن في ذلك نحتا لأصنام وصناعة لها وكأنه لا يوجد لدينا ما يكفي من أصنام ترزح صدورنا تحت وطأتها الثقيلة