تداعيات الذاكرة

36 مشاهدة

تفجّر الأحداث الأليمة الذاكرة بطريقة حادة. فجأة يندمج الماضي مع الحاضر ويصبحان ليجلبا معاً التأسّف والحزن الشديدين. ذروة المأساة في هذه الحالة ازدحام الذاكرة، وبخاصة ذاكرة التفاصيل، إلى درجة أنّ البعض اعتاد مدح أصحاب الذاكرة الفقيرة بالتفاصيل والممعنون في النسيان، حدّ أن النسيان يتحوّل في هذه اللحظات إلى نعمة غامرة ومصدر راحةٍ مُهدّئة ومواسية.

في السويداء، وجّهَ رجلٌ جليل متقدّمٌ في العمر نداءه إلى أهالي السويداء يدعوهم إلى الذهاب إليه في مخبزه مزوّدين بما يمتلكون من طحين ليخبزه لهم على جمر تنوره، بعد أن نفد كلّ ما لديه من طحين كان يخبزه ويوزّعه على الأهالي، مُقدّراً غياب الكهرباء والغاز وانعدام الحطب. وفي منطقة أخرى ينصرف الشيب والشباب إلى إعداد فطائر المحمّرة والزعتر والكشك بما قُدّم لهم من طحين ويوزّعونه على أهل القرية والضيوف الذين احتموا فيها والعابرين، يوزّعونه طعامًا جاهزًا لوجبات الإفطار والغداء.

تتبدّل الأمكنة وتكتسب النكهات طعم البقاء، تنحاز الذاكرة إلى من يتحدّى الموت بالنكهة، بالخبز، وكأنّه مشروع جماعي للتكاتف

على وجعٍ تستفيق ذاكرتي المُمتلئة برائحة جمر التنور وعبق الخبز الشهي والفطائر العارمة بزعتر أخضر مخلوط في البيوت بوصفة ساحرة ولذيذة، هناك على مشارف قريتي. لكن المكان تغيّر فجأة وتحوّل إلى أطلالٍ أو ظلال. صار الخبز والفطائر بعبقهما، واحتفالية الحصول عليهما، والتهامهما مأثرة في السويداء، وفعلاً هادراً من أجل استمرار الحياة. لذلك بات حكماً بقوّة العاطفة، بقوّة البقاء، أنّ ما يُصنع هناك في السويداء هو الأكثر اكتمالاً والأكثر ارتباطاً بالذاكرة وبالمستقبل معاً. يحضر كشك القلمون البهي المصنوع من البرغل الأحمر المخلوط من لبن الغنم والبقر معًا، ولكن لا في بيوتنا ولا في القلمون ولا في المخابز الشهيرة، يحضر كلّه في فطيرة أُعدّت على عجل وبكميّات قليلة في السويداء! تتبدّل الأمكنة وتكتسب النكهات طعم البقاء، تنحاز الذاكرة إلى من يتحدى الموت بالنكهة، بالخبز المعدّ وكأنّه مشروع جماعي للتكاتف. يتحوّل المميّز في الجودة والنكهة المعتّقة في الحلق إلى نكهة مؤجّلة، أو إلى واجب يطغى عليه الإنصات إلى صوت الحياة والتعامل معه

ارسال الخبر الى:

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2016- 2025 يمن فايب | تصميم سعد باصالح