عندما تتوقف الحرب في مقبرة الغزاة
كلُّ من كان يراهم عن بُعد، أو يعرفهم عن قُرب، كان يدرك تماماً أن علاقة دافئة هادئة تجمع بينهما. وعلى الرغم من ضيق الحال وضيق البيت، إلا أنهما استطاعا أن يُظلِّلا على أطفالهما الأربعة، وأن يبدو ذلك البيت وكأنّ أهله يعيشون في بحبوحةٍ من العيش، لأن الزوجة، باختصار، كانت امرأةً حكيمة، وقد حوّلت الدخل المحدود ليبدو وكأنه نهرٌ لا ينضب من المال. ولذلك، كانت حياتهما مضرباً للمثل... حتى جاءت تلك المقتلة، وأصبحا فجأةً على قارعة الطريق.
بعد عامين من الحرب، ما بين نزوحٍ وجوعٍ وتشرّد، جلست على قارعة الطريق وحولها الأطفال الأربعة، بعد أن استطاعوا بصعوبةٍ النزوح من مدينة غزّة نحو وسط القطاع. وهناك، أدرك الزوجان اللذان كان الحبُّ والتفاهم ظلَّين لهما، أنهما لم يعودا يملكان شيئاً، وأن السماء فوق رؤوس الصغار، والأرض تحت أقدامهم... ليست إلا.
في لحظة يأسٍ وضياع، قرّر الزوج أن يهرب بلا هدف، وبلا مبرّرٍ يمكن أن يسوقه للزوجة التي تدفن رأسها بين ساقيها اللتين طاولهما الألمُ بسبب كثرة المشي والسعي في المكان نفسه، بحثاً عن خطوةٍ جديدةٍ أو خيمةٍ تحميها مع صغارها. وحين عجزت، دفنت رأسها بين ساقيها وأخفت دموعها، فيما وقف الزوج على بُعد خطواتٍ منها وهمس لها بكلمتين، ثم مضى: أنتِ طالق.
لم ترفع رأسها لتنظر صوبه مستنكرة، فهي تعرف أنه أصبح خالي الوفاض من كل شيء، فلا حيلةَ ولا وسيلة، وأنه وصل إلى الدرجة التي جعلته يهرُب، لكي لا يراها مع الصغار على قارعة الطريق، وهو لا يملك لهم شيئاً، ولا يستطيع أن يتوقّع أن هناك شيئاً قد يستطيع فعله. فهو بلا عملٍ منذ عامين، وقد مرّ هذان العامان به وهو يلتقط اللقمة من هنا وهناك، ما بين طعامٍ بلا طعمٍ مما تُسمّى تكية الفقراء، وما بين مساعداتٍ بسيطةٍ من الأهل والأقارب، ومن أعمالٍ بسيطةٍ ومُهينةٍ كان يقوم بها لنازحين ومقيمين أفضل حالاً منه، ويحصل في مقابل ذلك على مبالغ بسيطة تدفع ساعات اليوم لكي تمضي بلا قرصة جوعٍ في بطون الصغار.
ارسال الخبر الى: