من تاريخ المنتخبات 13 المجر قواعد اللعبة تغيرت بالكامل
٤٧ مشاهدة
مثل مرآة تعكس المنتخبات البلاد التي تمثلها فهي تجمع عناصر هويتها وتكثفها في فريق من 11 لاعبا كأنما يختزلون شعبا مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ مواز للأمم تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع العربي الجديد نشرها بمناسبة بطولتي اليورو وكوبا أميركا 2024 تتناول حلقة اليوم تاريخ منتخب المجر حين عاد للمشاركة في المسابقات الدولية الكبرى منذ سنوات قليلة بدا منتخب المجر وكأنه خرج من كتاب تاريخ كان قوة كروية عظمى بلغت مداها في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي ثم انتهى إلى ما هو عليه الآن منتخب بلا نجوم ولا هوية تكتيكية وبلا طموحات بالمضي بعيدا وبين زمنين جرت مياه كثيرة تحت الجسر حتى باتت المجر كسمكة خارج مائها في عالم كرة القدم كما نعرفها اليوم صحيح أن اللعبة الأكثر شعبية في العالم لا تزال تعتمد على 11 لاعبا ولم تتبدل أشكال الملاعب وأن قوانينها لم تتغير إلا نسبيا لكن حجمها الاجتماعي قد تضخم بشكل رهيب وباتت تعبرها رهانات اقتصادية وجيوسياسية خطيرة وإلى ذلك دخلتها أفكار تكتيكية ومنظورات تسيير جديدة فرفعت بلدانا وأخرت أخرى أكان صدفة أن يندثر إشعاع المجر الكروي مع ظهور احتراف اللاعبين بشكله الليبرالي المعولم أو حين أصبح الفيفا منظمة مرهوبة الجانب تتنافس على رضاها الأمم وهل كان صدفة أن تغادر المجر المواقع الأمامية حين تلون التلفزيون وباتت المادة الرياضية أحد أعمدته بدايات وحروب كانت المجر طرفا في أول مباراة دولية بين منتخبين خارج الجزر البريطانية حين التقى منتخبها بالنمسا عام 1902 وكانت تلك المباراة تمثل امتدادا لتنافس بين نخب عاصمتي الإمبراطورية النمساوية المجرية وهي تعيش آخر أيامها فقد انتهت الحرب العالمية الأولى 1914 1918 بتصفيتها وكانت لذلك عواقب رياضية حيث قاطع الفيفا بضغط بريطاني البلدان التي اعتبرت سببا في الحرب وتحديدا ألمانيا والنمسا والمجر لكن انسحاب اتحادات الكرة البريطانية من فيفا في بداية العشرينيات دفع الاتحاد الدولي لإرضاء المنتخبات المغضوب عليها فعادت المجر للمشاركة عبر الألعاب الأولمبية 1924 المجر جزء أساسي من التاريخ المبكر لكرة القدم بفعل التنافس مع البلدان المجاورة خصوصا النمسا ورومانيا ازدهرت كرة القدم في المجر من ناحية هيكلة الأندية وتطور مهارات اللاعبين وأيضا كبنية تحتية حتى أنها كانت من البلدان التي تقدمت بملف لتنظيم أول نسخة من كأس العالم 1930 فلما آل شرف تنظيم البطولة لأوروغواي قاطع المجريون ومختلف البلدان الأوروبية التي قدمت ملفات ترشحها النسخة الأولى من المسابقة ما دفع رئيس الاتحاد وقتها جول ريميه إلى أن يقطع وعدا بأن تقام الدورة اللاحقة في بلد أوروبي فنظمت البطولة في إيطاليا التي فرضت سطوتها عليها وكانت مشاركة المجر متوسطة ببلوغ ربع النهائي وستكون الدورة الموالية في فرنسا أول صعود للمجر قوة كروية بارزة حين وصلت إلى المباراة النهائية واصطدمت بالمنتخب الإيطالي الذي حافظ على لقبه بطلا للعالم ميدالية فضية لمنتخب ذهبي عندما نزل ستار الحرب العالمية الثانية على كرة القدم عام 1939 كانت المجر تعتبر رابع قوة كروية عالمية بعد إيطاليا وأوروغواي وإنكلترا رغم عدم مشاركتها بعد في كأس العالم وحين وضعت الحرب أوزارها 1945 بدا أن المجر قد استعدت جيدا للمرحلة الجديدة فقد أعد المدرب غوشتاف سيبيس مجموعة لاعبين سيشكلون جيلا ذهبيا سحر عالم كرة القدم بضعة أعوام مع ذلك الفريق بلغ نموذج لعب 4 4 2 ذروته بلاعبين مهاريين في كل المواقع وبقيادة فلتة كروية اللاعب رقم 10 فرنك بوشكاش الذي جمع لأول مرة بين دوري صناعة اللعب وتسجيل الأهداف يسانده في الهجوم كوتشيش وتسيبور وخلفهم خط وسط فيه زاكارياس وهيديكوتي وبوداي ناهيك بدفاع صلب أمام الحارس غروشيش سمي هذا الفريق بالـ11 الذهبي ذلك أن التشكيلة كانت ثابتة يحمل كل لاعب فيها رقم مركزه من 1 إلى 11 منذ أول مباراة لهم في 1949 إلى آخر مواجهة خاضوها عام 1956 في وقت كانت قوانين الكرة لا تعترف بالتغييرات أثناء المباراة ولقد بدأ إدخال البدلاء ضمن تصور كرة القدم عام 1958 أي بالتزامن مع أفول منتخب الـ11 الذهبي وهو متغير بسيط آخر يبدو أن المجريين لم يسايروه في سبعة أعوام لعب بوشكاش ورفاقه 50 مباراة فازوا في 42 منها وتعادلوا في 7 مناسبات وهزموا مرة وحيدة لكنها صادفت أن تكون أهم مباراة في مسيرتهم نهائي كأس العالم 1954 بعدما تقدموا بهدفين في الشوط الأول يومها انقلب تاريخ كرة القدم إلى الأبد أصبحت ألمانيا الغربية التي كانت إلى ذلك الوقت بلا إنجازات قوة كروية أساسية في العالم وفي الاتجاه العكسي غربت شمس المنتخب المجري ولم تشرق بعد ذلك ما يزيد من تشويق سيناريو ذلك الانقلاب هو المواجهة التي جمعت طرفي النهائي قبل أيام في مرحلة المجموعات وفاز خلالها المجريون بنتيجة 8 3 نتيجة غريبة على أسماع متابعي كرة القدم اليوم لكنها كانت عادية بالنسبة لذلك الجيل المجري فقد انتهت أول مباراة لهم عام 1950 في الدربي ضد النمسا بنتيجة 6 1 ضمن مسابقة تعرف بالكأس الدولية اندثرت في 1953 أي في ذات الدورة التي فاز بها المنتخب المجري ويا له من نحس في دورة الألعاب الأولمبية 1952 فازت المجر على تركيا 7 0 وعلى السويد 6 0 وحصدت الميدالية الذهبية في الأخير وفي 1953 فاز الجيل الذهبي 6 3 على إنكلترا وهي أول هزيمة دولية للإنكليز على أرضهم وحين أقيمت بعد أشهر مباراة ثأرية في بودابست فاز المجريون مجددا على الإنكليز 7 0 وفي كأس العالم 1954 بدؤوا مشوارهم بالفوز على كوريا الجنوبية 9 0 ثم ألمانيا 8 3 وواجهوا البرازيل في ربع النهائي وانتصروا 4 2 وثم هزموا أوروغواي حاملة اللقب بنفس النتيجة قبل أن تأتي مباراة ألمانيا التي انهار فيها كل شيء مواهب المجر التي تبعثرت كان يمكن على الأقل أن تتذكر الأجيال اللاحقة المجر بتتويج عالمي يظل عنوانا لهيمنتها الكروية لسنوات لكن التاريخ أبى إلا أن يبقيها في الظل حتى الألقاب التي أحرزتها المجر باتت منسية وتجدر هنا الإشارة إلى أن وزن المسابقات كان مختلفا عما هو عليه اليوم ففي النصف الأول من القرن كان الذهب الأولمبي منذ دورة لندن 1908 هو الهدف الأول لمنتخبات كرة القدم بما أنه لم يكن هناك مونديال وحتى مع تنظيمه بدءا من 1930 بقيت هذه المسابقة منقوصة الشرعية مع عدم اهتمام اتحادات الجزر البريطانية مهد الكرة بالمشاركة فيها لعبت المجر أدوارا متقدمة في مسابقات كرة القدم في الألعاب الأولمبية وفازت بالذهب الأولمبي بفضل جيل بوشكاش عام 1952 دورة هلسنكي في وقت لم يكن يوجد سقف لسن اللاعبين 23 سنة والذي بدأ تبنيه لاحقا وقد حققت المجر ضمن قواعد مسابقات كرة القدم الأولمبية القديمة الذهب في دورتين إضافيتين عامي 1964 طوكيو و1968 مكسيكو لكن كيف انتهى الجيل الذهبي في الحقيقة كان يمكن له الاستمرار عشر سنوات أخرى إذا علمنا أن أفضل لاعبيه بوشكاش واصل اللعب في أعلى مستوى حتى عام 1966 إذن لم يتوقف الـ11 الذهبي كرويا وإنما انتهى بتدخل جراحي من التاريخ تاريخ المجر ففي نهاية سنة 1956 قامت انتفاضة شعبية ضد التدخل السوفييتي وسوء الأحوال الاقتصادية تحت نماذج التخطيط الاشتراكي اعتبرت موسكو انتفاضة المجريين تهديدا لمصالحها في منطقة حساسة من مناطق نفوذها في إطار الحرب الباردة والتي لم تكن كذلك بالمرة حين دارت فصولها على أرض المجر فقد اجتاح الجيش الأحمر شوارع العاصمة بودابست منهيا بشكل دموي حاسم انتفاضة الشعب المجري ومع تلك الأحداث فر عدد من أعضاء الفريق الذهبي إلى بلدان مجاورة أولا ثم إلى إسبانيا بوشكاش استقطبه ريال مدريد واتجه تشيبور وكوتشيش إلى برشلونة وكأنما دخلت المجر في إحباط نفسي معمم اكتفت بدورها كحجر في رقعة الشطرنج الشيوعية وفي نوع من الانزواء كانت ترجمته الرياضية تراجع المنتخب ودخوله في شتاء طويل حافظت المجر لسنوات أخرى على قدرتها في إنجاب لاعبين جيدين وحققت بعض النتائج إذ ترشحت لـ3 دورات متتالية من نهائيات كأس العالم 1978 1982 1986 لكنها خرجت في كل مرة من دور المجموعات ومن ثم اختفت تماما من جميع البطولات الدولية وكأنها لم تعد موجودة على الخريطة هل تذهب الأمم إلى التقاعد لم تظهر المجر من جديد في بطولة دولية كبيرة إلا عام 2016 مع توسيع دائرة المنتخبات المشاركة في كأس الأمم الأوروبية من 16 إلى 24 فريقا في الأثناء كانت قد ظهرت في العالم قوى كروية أخرى لم تعرفها المجر في سنوات مجدها هيمنت بعدها البرازيل في ما تبقى من عقد الخمسينيات ثم في الستينيات وبرزت الأرجنيتن وهولندا قوتين كرويتين جديدتين ثم صعدت إسبانيا وفرنسا إلى منصات التتويج فيما تواصل إشعاع الألمان فحققوا العديد من الألقاب الأوروبية والعالمية ونجح الطليان عكس المجريين في استئناف أمجادهم بعد تراجع سنوات وكلما مضى الزمن غرقت أمجاد المجر الكروية في النسيان أكثر لتبقى حبيسة عصر التصوير بدون ألوان وكحالها في المجمل انقلبت الأيام بالمجر من حجر زاوية ضمن إمبراطورية تقرر مصير جزء من العالم إلى بلد بلا منافذ بحرية في وسط أوروبا بلد بات مغلقا بأكثر من معنى ربما استفادت البلاد من انهيار الاتحاد السوفييتي لتفتح صفحة جديدة من تاريخها لكنها تعثرت مع الدخول السريع في اقتصاد السوق وكانت مضطرة لأن تمسك باليد التي مدتها إليها أوروبا فدخلت اتحادها عام 2004 لكن في المقابل كانت مشاعر التذمر تتزايد وذكريات الأمجاد تثقل كواهل المجريين ما هيأ حاضنة لصعود اليمين المتطرف المجر بلد مغلق جغرافيا لكنه بات أيضا مغلقا بخياراته السياسية وفي غيبوتها الكروية لم تفكر المجر حتى في التوسل بالروافع التي قادت لتطوير منتخبات عرفت تعثرا في وقت من الأوقات مثل ألمانيا وفرنسا وسويسرا حين قررت استيعاب أعراق جديدة من مواطنيها في تشكيلة منتخباتها ولكن كيف للمجر أن تقدم على هذه الخطوة وهي بلد يغلق أبوابه ومنذ 2010 أصبح تحت حكم زعيم اليمين المتطرف فيكتور أوربان وقد مثل وصوله إلى منصب رئيس الوزراء صدمة في أوروبا التي بدت لحظتها وكأنها ندمت على احتضان المجر وقد باتت تذكرها بكوابيس الفاشية غير أن بضع سنوات كانت كافية كي تقطع بلدان مثل إيطاليا وفرنسا من المسافة نحو بلاد أوربان أكثر مما خطته المجر نحو أوروبا لعل الانفتاح الوحيد الذي يتجلى عبر كرة القدم هو قبول المجر بتولي الأجانب منصب مدرب المنتخب حيث انفتحوا أول مرة على المدرسة الرومانية في بداية التسعينيات ثم على الألمان وكانت نتيجة ذلك العودة للمسابقات الدولية عام 2016 والترشح للدور الثاني من المسابقة كما يعتمد الفريق حاليا على المدرب الإيطالي ماركو روسي في ما عدا ذلك تعيش المجر على ماض تؤسطره باستمرار ومن بين العناصر التي اصطفتها الذاكرة الشعبية ذلك الجيل الذهبي ولقد كانت الجنازة التي أعدتها الدولة المجرية عند وفاة فرنك بوشكاش عام 2006 دليلا على نوعية المفردات التي تنتقيها السياسات لبناء الحاضر وقبل ذلك تغيرت تسمية الملعب الوطني من ناب ستاديون ملعب الشعب إلى بوشكاش أرينا عام 2002 وحين أعيد تجهيزه عام 2019 اختار المجريون مواجهة أوروغواي لافتتاحه كي تكون مباراة تذكرهم بـالزمن الجميل زمن كانت فيه كرة القدم مختلفة تماما عن تلك التي نشاهدها اليوم