من تاريخ المنتخبات 12 إسبانيا شروخ مجتمع تخفيها الكرة وتظهرها
٣٢ مشاهدة
مثل مرآة تعكس المنتخبات البلاد التي تمثلها فهي تجمع عناصر هويتها وتكثفها في فريق من 11 لاعبا كأنما يختزلون شعبا مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ مواز للأمم تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع العربي الجديد نشرها بمناسبة بطولتي اليورو وكوبا أميركا 2024 في هذه الحلقة نتناول تاريخ منتخب إسبانيا اختيار أحد عشر لاعبا في تشكيلة المنتخب الإسباني ليس أمرا هينا على مدربي لاروخا على مر الأجيال لأن فريقا يحتاج إلى الانسجام أكثر من مواهب لاعبيه التي قد تتنافر حين يكون المطلوب منها أن تتكامل فما بالنا بمنتخب جعل هويته الكروية اعتماد أسلوب قائم على التمريرات وتوظيف المهارات الفردية ضمن رؤية جماعية في ما بات يعرف باسم تيكي تاكا في ما عدا استثناءات قليلة جدا عانت أجيال اللاعبين الذين حملوا قميص المنتخب الإسباني من صعوبات في الانصهار ضمن فريق واحد ظاهريا يفسر ذلك بما تعيشه البلاد من تنافس حاد بين ناديي ريال مدريد وبرشلونة بحيث يصعب أن نتصور أن يصبح أعداء الدوري أصدقاء في المنتخب ولم تنجح إسبانيا في تحقيق إنجازات كروية إلا حين تجاوز مدربوها هذا المطب فوجدوا توليفة تجمع بين أبناء مدريد وبرشلونة وغيرهم من أندية إسبانيا وفي الحقيقة لا يوجد إلا جيلان في مجمل تاريخ الكرة الإسبانية نجحا في ذلك جيل التتويج بكأس أوروبا عام 1964 وجيل 2008 2012 الذي حقق كأس العالم وكأسين أوروبيتين على التوالي ففي تشكيلة منتخب إسبانيا وقتها انسجم بويول وتشافي وإنييستا من برشلونة مع كاسياس وراموس وألونسو من ريال مدريد مع لاعبين من فرق إسبانية أخرى مثل توريس ودافيد سيلفا كيف يمكن التعبير عن هوية مبعثرة يخفي تأثير التنافس بين ريال مدريد وبرشلونة أسبابا أخرى كانت وراء أكثر من فشل عاشت على وقعه الكرة الإسبانية فالمنتخب صورة عن مجتمع تعبره شروخ كثيرة يمكن اعتبار الانقسام الكروي الأبرز على السطح وفي العمق نقف على انتماءات إقليمية يصل بعضها إلى طموحات الانفصال وذلك حال إقليمي الباسك وكتالونيا وبسبب هذه النزعات تمثل إسبانيا نموذجا لبلد ظل مفهوم القومية فيه مشتتا مفتقدا إلى مشروع وطني جامع كالذي طورته أمم أخرى مجاورة ولقد انعكس شيء من ذلك في مرآة المنتخب الذي ساير اهتزازات تاريخ البلاد محطة بمحطة عانت أجيال من اللاعبين الإسبان من صعوبات في الانصهار ضمن فريق واحد على مستوى الهياكل الرياضية أيضا بدأ تاريخ كرة القدم الإسبانية بانقسام إذ تأسست جامعتان الأولى عام 1909 والثانية سنة 1912 فلما بدأت إسبانيا إجراءات الانضمام إلى الفيفا رفض طلبها أول الأمر بسبب عدم وجود إطار يمثل مجمل الكرة في البلاد وهو ما فرض على الجامعتين الانصهار عام 1913 ومن ثم تأخر إنشاء منتخب موحد إلى سنة 1920 بسبب خلافات مترسبة وحين أطلقت كأس العالم في 1930 رفضت إسبانيا التوجه إلى أوروغواي أسوة بإنكلترا التي ترفعت عن المشاركة قبل أن ينفتح قوس الحرب الأهلية الإسبانية 1936 1939 فاندثر المنتخب وبنهايتها اندلعت الحرب العالمية الثانية 1939 1945 فتوقف تاريخ كرة القدم بمجمله بضع سنين يمكن اعتبار دورة كأس العالم 1950 في البرازيل لحظة ميلاد منتخب إسبانيا مع تحقيقه المركز الرابع وقد بدا أن تطور المنافسة محليا قد انعكس على أداء أصحاب القمصان الحمراء في ذلك الوقت بدأ ريال مدريد في بناء مشروع معولم بمفردات اليوم حين جمع أفضل لاعبي العالم في زمن كانت الفرق مجرد فترينات ضيقة لمواهب مدنها أو القطاعات التي تمثلها سيوفر ذلك بنية تحتية لازدهار الكرة الإسبانية خصوصا حين تفوقت بشكل مطلق على مستوى الأندية في البطولات الأوروبية لكن لم يكن للمنتخب حظ كبير من هذا الزخم على الرغم من كون الفرصة سنحت لـلاروخا كي تأكل الأخضر واليابس لو توفر القليل من الرعاية الرسمية فقد تهيأ لإسبانيا أن تجمع فريقا مرعبا حين كانت قوانين الفيفا تسمح بتغيير الجنسية الرياضية فإضافة إلى المواهب الإسبانية مثل لويس سواريز وخينتو كان على ذمة المنتخب الإسباني الأرجنتيني ألفريدو دي ستيفانو والمجري فرنك بوشكاش كان على المنتخب الأحمر أن يدفع فاتورة الديكتاتورية العسكرية التي أرساها الجنرال فرانكو وتقلب مزاجها السياسي وقتها ففي نهاية الخمسينيات مثلا وضمن تصفيات كأس أوروبا أوقعت القرعة إسبانيا في مواجهة الاتحاد السوفييتي غير أن الجنرال قرر عدم السماح للاعبيه بالتوجه إلى موسكو نظرا للخلافات السياسية بين البلدين هكذا بدت إسبانيا لعقود متتالية وكأنها مصرة أن تتأخر كرويا كغير ذلك من وجوه التأخر الذي فرضته سنوات الحكم العسكري ثم بدا أن البلاد قد بعثت فجأة بموت الجنرال فرانكو عام 1975 والتحول إلى نظام ملكي دستوري أدخل البلاد مرحلة انتقال ديمقراطي وكانت خلاله إسبانيا محظوظة بأن دعمتها البيئة الدولية فأتى سلسا ليس كالانتقالات الديمقراطية في منطقتنا وأعاد تشكيل المجتمع وتحديثه في سنوات قليلة حتى الفيفا ساهمت من موقعها في تحريك عجلة التحولات بمنح تنظيم نسخة كأس العالم 1982 لإسبانيا كانت نشوة مرحلة الـموفيدا تمنح أجنحة للإسبان كي يحلموا بترجمة نهضتهم في منتخب يأخذ المكانة التي يستحقها بين القوى الكروية العالمية يمكن لهم أن يعولوا أيضا على قوة أنديتهم وما تتيحه الليغا من فرص تطور للاعبين غير أن الشعب الإسباني سرعان ما استفاق على كابوس مع ظهور تشكيلة مفككة بلاعبين أداؤهم يفتقد إلى الحماسة وعاجزين عن مسايرة منافسين مغمورين مثل هوندوراس 1 1 أو أيرلندا الشمالية هزيمة 1 0 كان ذلك المنتخب بعيدا جدا عن الصورة التي أراد الإسبان أن يقدموها عن أنفسهم للعالم وهل كان يوجد أفضل من كرة القدم لفعل ذلك وعي كروي جديد في إسبانيا أعلنت صدمة 1982 بداية مرحلة جديدة لم يعد المنتخب مسألة تجميع أفضل لاعبين بل يحتاج إلى سياسة رياضية جديدة تبدأ بمراحل تكوين الشبان ولبناء منتخب قادر على المنافسة أوكلت المهمة للمدرب ميغيل مونيز الذي حقق إنجازات كبيرة مع ريال مدريد ومع وصول جيل بوتراغينو وميشال وغويكوتشيا تحسنت النتائج بشكل ملحوظ وهو ما ترجمته مشاركة محترمة في بطولة أوروبا 1984 في فرنسا وصولا إلى المباراة النهائية أمام الفريق المنظم حيث انهزم الإسبان كان الأداء المشرف كافيا لاسترجاع الأمل ومن ثم واصل المنتخب الإسباني عروضه المقنعة في كأس العالم 1986 خصوصا في مباراة شهيرة أمام الدنمارك سجل خلالها بوتراغينو أربعة أهداف قبل الانسحاب بصعوبة أمام بلجيكا بضربات الترجيح في ربع النهائي انتهت مرحلة مونيز لكن ظلت إسبانيا على مستوى من الثبات لسنوات طويلة كان المدرب خافيير كليمنتي عنوانها الأبرز في كل مرة يرفع أداء المنتخب الإسباني في مرحلة التصفيات التوقعات ومن ثم يحضر في مختلف البطولات الكبرى بلاعبين أفذاذ يقتربون ببلادهم من منصة التتويج لكنهم يصطدمون بمنتخبات أكثر طموحا تجلى ذلك حين كانت الترشيحات تصب في مصلحة لاروخا أمام إيطاليا في ربع نهائي المونديال الأميركي عام 1994 فبعد أن تقدمت إسبانيا في النتيجة عدل الطليان ثم سجل روبيرتو بادجو هدفا قاتلا كأنما كان يشير إلى السقف الذي لن يستطيع أن يتجاوزه منتخب إسبانيا أبدا حتى حين ارتسم طريق سالك في كأس العالم 2002 نحو الأدوار المتقدمة اصطدم الإسبان بأخطاء تحكيمية فادحة منحت بطاقة المرور للنصف النهائي للبلد المنظم كوريا الجنوبية على حسابهم لعقود متعاقبة ظل المنتخب الإسباني يراوح مكانه بعيدا عن التتويجات لم تكن إسبانيا سوى قوة كروية تراوح مكانها وقس على ذلك موقعها في الاقتصاد والثقافة في العالم كان التفسير الجاهز دائما هو أن التنافس في الدوري الإسباني يعطل بلوغ لاروخا أعلى مستوى من التنافسية صحيح أن عدة لاعبين قدموا الكثير للمنتخب لكنهم لا يفعلون ذلك إلا بعد موسم طويل منحوا خلاله نواديهم أضعاف ذلك لأجيال متلاحقة كانت إبداعات اللاعبين الإسبان تظهر أساسا عبر تتويجات أنديتهم فماذا نذكر مثلا من مسيرة راوول في المنتخب إذا قارناها بإنجازاته مع ريال مدريد والأمر ذاته بالنسبة للاعب في برشلونة مثل بيب غوارديولا لم يراجع هذا الرأي ولم يمح مشاعر الخيبة جراء سوء الحظ أو الظلم التحكيمي إلا صعود جيل التتويجات بدءا من بطولة أمم أوروبا 2008 احتفى العالم بانتصار الإسبان فقد كان علامة شاهدة على انتصار الكرة الجميلة بعد أن هيمن التعويل على القوة التكتيكية لعقود فوصل الألمان والهولنديون والفرنسيون والطليان إلى منصات التتويج وبقي الإسبان مجرد متفرجين طوال عقود تعلق الأمر أيضا باحتفاء بالنزعة الجماعية فلم يكن في منتخب لاروخا آنذاك لاعب يحتكر الأضواء وتداول لاعبون كثيرون على دور البطل المخلص سجل إنييستا هدف الفوز بكأس العالم 2010 في شباك هولندا وما كان ليكون ذلك الهدف حاسما لولا أن الحارس كاسياس أنقذ مرماه من أهداف محققة وقبلهما أوصل بويول المنتخب الأحمر إلى النهائي وقبل عامين سجل توريس هدف الفوز بكأس أمم أوروبا أمام ألمانيا قد يكون تفرق دم الإنجازات بين لاعبي المنتخب سببا في عدم نيل أي منهم الكرة الذهبية رغم السيطرة التي فرضوها على المسابقات الدولية لأكثر من ست سنوات خلال تلك الفترة أحرز لاعبان فقط الأرجنتيني ليونيل ميسي والبرتغالي كريستيانو رونالدو جميع الكرات الذهبية ومن الوجيه الإشارة إلى أن كليهما كان يلعب في الدوري الإسباني العودة إلى المربعات ذاتها بدت سنوات التتويجات الإسبانية مثل حلم في الكرى أو خلسة المختلس فسرعان ما عاد المنتخب الأحمر إلى مواقعه القديمة وعاودته نفس الكوابيس ورغم أنه حافظ على ذات فلسفة اللعب واعتماده لسنوات أخرى على نفس الأسماء إلا أنه انقاد إلى خيبات قاسية في البطولات الدولية اللاحقة أشهرها في مباراة ثأرية هيأتها ويا لمكر التاريخ قرعة كأس العالم 2014 حين وضعت هولندا في مواجهة الإسبان في أولى مبارياتهم بالبطولة وانقادوا إلى هزيمة مذلة بخمسة أهداف ثم انسحبوا من الدور الأول وبعدها عاد الإسبان إلى ذات الدائرة القديمة في البطولات الدولية الكبرى بأن يقفوا في منتصف الطريق دون التتويجات في الأثناء كانت البلاد قد شهدت شروخا جديدة أبرزها استفتاء استقلال كتالونيا في 2017 الذي انتصرت فيه النزعة الانفصالية بشكل واضح قبل أن تتدخل المحكمة الدستورية الإسبانية وتعلن عدم شرعية الاستفتاء أصلا استعارت الصحافة السياسية معجم كرة القدم فسمت تلك اللحظة استفتاء 1 0 حيث صور تصويت الكتالونيين بوصفه هدفا سجله فريق برشلونة على ريال مدريد قبل أن يلغي الحكم الهدف لكن ماذا يقول تاريخ المنتخب في مسألة كتالونيا إنه لا يقدم غير مفارقات تضربها الرياضة لإضاءة التاريخ السياسي لقد كان الهدف الأثمن في تاريخ الكرة الإسبانية من أقدام الكتالوني أندريس إنييستا ذلك الهدف الذي أطلق أفراحا واسعة في إسبانيا ووحد شعبها بشكل غير مسبوق 2010 وإمعانا في المفارقة سنجد أن برشلونة هو النادي الأكثر تغذية للمنتخب الإسباني فمثلا في قائمة اليورو 2024 التي تقام حاليا على أراضي ألمانيا نجد خمسة لاعبين من برشلونة مقابل ثلاثة من ريال مدريد في سنة هيمن عليها فريق العاصمة على البطولات المحلية والقارية وفي كأس العالم الأخيرة قطر 2022 حضر ثمانية لاعبين من برشلونة مقابل لاعبين اثنين فقط من ريال مدريد كانت أيضا سنة هيمن فيها الفريق محليا وقاريا هكذا يبدو فريق برشلونة الذي طالما رفعت جماهيره شعارات الانفصال عن الدولة الأم أكثر خدمة للمنتخب الإسباني من ريال مدريد الذي يفترض أن يكون الأقرب لتمثيل المشروع الوطني الجامع إلا أن مصالح النادي أتت دائما قبل المنتخب فلطالما بجل اللاعب الأجنبي الجاهز للمساهمة في التتويجات على حساب تطور اللاعب الإسباني المتدرج من فئات الشباب وقبيل كأس العالم في روسيا 2018 حدث أن سعى فريق العاصمة لنيل توقيع مدرب المنتخب الإسباني لوبيتيغي الذي أقيل عن منصبه قبل أيام من أول مباراة في البطولة ما أدخل المنتخب في دوامة أفاق منها بخروج مبكر من ثمن النهائي لم تكن تلك الحادثة سوى تعبير عن كون أهداف الأندية تأتي في كثير من الأحيان فوق مصلحة المنتخب الإسباني ولكن لولا ثقافة الانتصارات التي وفرها قطبا الكرة الإسبانية ما كانت لاروخا ستجد لاعبين كالذين أتيحوا لها على مر العقود وما ذلك إلا بعض من تناقضات مجتمع يقف على مفترق تقريبا في كل شيء تفاوت تنموي ومناخي بين الجهات تجاذب سياسي حاد بين يمين ويسار بين مركزية وانفصالية نزعة تحديث مبالغة أحيانا ومغالاة في العودة للتقاليد أحيانا أخرى حتى مصارعة الثيران باتت موضع سجال حاد منذ سنوات ليست الكرة بعد ذلك إلا تكثيفا لمجمل التنافرات التي تسكن إسبانيا وعلى تلك الأرضية طالما وقف منتخبها الذي يخفي مرة شروخ المجتمع وكأنما عالجها جذريا بحبة سحرية وأحيانا يزيد في إبرازها ويجعلها مرئية للعالم