في عيد ميلاده الأربعين ظهر مؤسس فيسبوك ورئيس شركة ميتا مارك زوكربيرغ مرتديا بلوزة TShirt كتب عليها carthago delenda est وهي عبارة لاتينية يمكن ترجمتها إلى قرطاج يجب أن تدمر يعرف من لديه فكرة عن التاريخ الروماني وأساسيات اللغة اللاتينية مثل زوكربيرغ وغيره من خريجي الجامعات الأميركية أن قائل العبارة هو القائد الروماني كاتو الأكبر الذي اعتاد أن يختم بها خطاباته المحرضة في مجلس الشيوخ الروماني أثناء الحروب البونيقية مع الخصم اللدود لروما قرطاج وذلك في الزمن الذي اتسمت فيه سياسة قرطاج بالرغبة في السلام والاستقرار وتجنب الحروب مع روما فكانت الأخيرة تبحث دائما عن ذرائع للمبادرة بالهجوم وإنهاء هذا الخطر وعرف كاتو بتمثيله هذا التيار المحرض على الحرب وفي زمننا إذ تخوض إمبراطوريات حديثة تستلهم تاريخها وأمجادها من الرومان حروبا تدميرية في أنحاء كثيرة من العالم ويستخدم سياسيوها وإعلاميوها عبارات مقتبسة من كتب تاريخية ودينية للتحريض على مدن وشعوب وأمم لدعوة العالم كله للمشاركة في مسحها من الوجود كما كان كاتو الأكبر يدعو ويأمل فليس من المستغرب أن تثير هذه العبارة غضبا وتساؤلات من جهتين هما المستهدفتان لو فهمت العبارة بشكل مباشر سكان قرطاج الحالية التي نجت وازدهرت قرورنا طوالا بعد زوال كاتو وإمبراطوريته والفلسطينيون الذين ينادى إلى إفنائهم ويتفنن خطباء العالم الحديث بوجوب انكسار مقاومتهم أظهر كثير من التونسيين امتعاضهم من هذه العبارة التي تستهدف مدينتهم ورأوا فيها إعلانا مبطنا للحرب بينما ربط كثير من العرب العبارة بحرب الإبادة في غزة ومع السياسات القمعية التي مارستها منصات ميتا على المحتوى الفلسطيني أو المتضامن معه يصعب على الإنسان أن يسخف هذه الفرضيات ويتهم أصحابها بأنهم ذوو خيال واسع وأن يشرح خلفيات العبارة والسياق الذي جاءت فيه كما تنقل وكالات الأخبار التي تشرح الوقائع المعروفة وهي أن زوكربيرغ يستأنس بهذه العبارة لوصف صراعه مع شركة غوغل حين أطلقت منصة شبيهة بفيسبوك سنة 2016 وقتئذ أعلن فيسبوك وموظفوه الحرب على غوغل وقرروا أن أنسب طريقة للتعامل مع هذا التهديد لمكاسبهم وامتيازاتهم هي السياسة التي اتبعها كاتو الأكبر وهي التدمير التام لقرطاج غوغل هنا يصير الجنرال الروماني قدوة ومصدر إلهام في ساحة حرب من نوع آخر ولكن هل يمنع هذا التفسير امتعاض الناس واستهجانهم للعبارة برأيي لا يمكن فصل هذه العبارة عن الواقع السياسي للعالم اليوم والدور الذي تلعبه ميتا وغيرها من شركات الإمبراطورية الحديثة التي تعلن الحرب التدميرية ضد كل منافس أو معارض يهدد مصالحها وامتيازاتها فالاقتباس من قائد عسكري قديم والتماهي مع روايته وتجاهل الطرف الآخر دليل على وجود عقلية مشتركة في التعامل مع الآخر والرغبة في تحطيمه تماما تعكس العبارة وجها من أوجه المركزية الأوروبية الغربية سؤال الآخر هنا وتجاهل وجود قرطاج الحديثة اليوم التي لها بدورها امتداد تاريخي أبناؤه جزء فاعل من العالم الحديث حتى لو لم يعرف زوكربيرغ أو لم يرد أن يعرف ذلك هي أيضا مسألة إشكالية إذ تدأب شخصيات غربية كثيرة على التماهي مع الحضارتين اليونانية والرومانية باعتبار أن الحضارة الغربية اليوم هي امتداد طبيعي لهما فتراهم مولعين بالعبارات اللاتينية ويطلقون أسماء يونانية ولاتينية على منتجاتهم العصرية هذه النظرة الأحادية لتاريخ العالم تؤدي غرضا آخر يتمثل في جعل كل ما هو خارج من هذا الامتداد الخطي للتاريخ مغايرا وبالتالي عدوا محتملا أو فعليا من الأمثلة الأخرى التي تظهر هذا التماهي جليا هي عروض إعادة التمثيل التاريخي وهي عروض تقام غالبا في الولايات المتحدة وبريطانيا ويجتمع فيها عدد كبير من هواة التاريخ لإعادة تمثيل وقائع تاريخية مشهورة تكون مثلا مشاهد من الحرب الأهلية في أميركا أو معارك تاريخية للرومان أو اليونان قرأت مرة عن صعوبة إعادة تمثيل وقائع معينة كالحروب اليونانية الفارسية في بلد مثل الولايات المتحدة وذلك بسبب إحجام غالبية المشاركين بشكل قاطع عن أداء أدوار جنود أو قادة فرس وتفضيلهم عوض ذلك أن يكونوا جزءا من القوات اليونانية على اعتبار أن الفرس هم الأعداء واليونان هم الأخيار رغم أن هذا يحصل في بلد يفترض أنه خارج جغرافيا كلتا الحضارتين وفي فترة زمنية يفترض أن هذه الوقائع صارت جزءا من التراث العالمي الجامع الذي يتدارسه الأكاديميون لاستخلاص دروس وأبحاث تثري الواقع وتدفع الحضارة الإنسانية مجتمعة إلى الأمام هذه الدعوة الإنسانية الجامعة كانت شعار عصر الأنوار الأوروبي وبهذه الدعوة انتقلت آثار ومخطوطات كثيرة من العالم كله نحو أوروبا والغرب على اعتبار أنها موروث إنساني جامع يخص الجميع لكن عند النظر بتمعن تظهر آثار المركزية الأوروبية التي ترى لنفسها امتدادا تاريخيا محددا يجعلها وريثة حضارة معينة ويجعل ورثة الحضارات الأخرى أعداء محتملين على ضوء هذا كله يصعب على الإنسان أن يسخف من آراء الذين استفزتهم عبارة كاتو الأكبر على بلوزة زوكربيرغ فهي وإن لم تكن تنطوي على مؤامرة فإنها تعكس وجها من أوجه المركزية الأوروبية الغربية التي لا تعير اهتماما للآخر مهما كان شكل وجوده الحديث ومهما كانت المآسي التي يعيشها اليوم كاتب فلسطيني مقيم في ألمانيا