برلين Musikfest وصولا إلى قاع الأشياء

21 مشاهدة
طبقان موسيقيان مميزان من بين أطباق أخرى عديدة على موائد هذا العام من مهرجان الموسيقى الكلاسيكية للعاصمة الألمانية Musikfest الذي تنظمه مؤسسة المهرجانات البرلينية Berliner Festspiele إنهما ماهلر والموسيقى الإيرانية ينظر إلى النمساوي غوستاف ماهلر 1860 1911 على أنه قطب من أقطاب الرومانسية المتأخرة إذ إن أبرز أعماله السمفونية وإن خرجت إلى النور قبيل رحيله وقبل الحرب العالمية الأولى ببضعة سنين حافظت على جماليات الحقبة الرومانسية الماضية لجهة توظيف البنى الهارمونية الأشد درامية في الموسيقى السلمية من دون الخروج التام عليها من هنا فإن ماهلر من خلال تمسكه بلغة القرن التاسع عشر والعمل على أخذها إلى حدودها التعبيرية القصوى ظل في الظاهر محافظا أي كلاسيكيا بين أقرانه الحداثيين من المؤلفين المجددين مطلع القرن العشرين أما الباطن فقد كان تقدميا ينتج بأدوات الماضي موسيقى ثورية قدم المهرجان سمفونيتين لماهلر السابعة وبها افتتحت نسخة العام في السادس والعشرين من الشهر الماضي أدتها أوركسترا الكونسرت خيباو أمستردام الهولندية بقيادة الهنغاري إيفان فيشر بعدها بيومين قدمت التاسعة بأداء أوركسترا لندن السمفونية وبقيادة البريطاني سيمون راتل أما في اليوم ما قبل الأخير من الشهر فقدمت الأوركسترا السمفونية الألمانية بقيادة البريطاني روبن تيكياتي أغنية الأرض وهي سلسلة أغان صممت داخل بنيان سمفوني من خلاله لحن ماهلر قصائد من نظم الشاعر الألماني هانز بيتغه Hans Bethge 1876 1946 غنتها كل من الاسكتلندية كارن كارغيل والبريطاني ديفيد بات فيليب لعلها رغبة منظمي المهرجان في توسيع المجال الدلالي لمصطلح موسيقى كلاسيكية وذلك في مسعى إلى عولمته فالخروج به من تحت أحادية مظلة الهوية الأوروبية ما حدا بهم إلى إدراج أمسيتين بعنوان فارس 1 وفارس 2 Persien I II قدمت فيهما الموسيقى الإيرانية بآلاتها وتشكيلاتها التقليدية أسوة بنظيرتها الغربية وكغيرها من الثقافات الشرقية كالعربية والتركية والهندية التي ورثت حضارات عريقة أنشأت ممالك وإمبراطوريات عتيدة تستمد موسيقى التخت في إيران جذورا لها من البلاط والمؤسسة الثقافية المنضوية تحته هناك حيث تشكلت وفق قواعد وأسس أنتجت معايير تبلورت تقاليد بمرور الزمن حتى صارت تعرف محليا بكلاسيكية ثاني الأمسيات الإيرانية Persien II استضافتها القاعة الكبرى الرئيسية لصالة برلين الفيلهارمونية على خشبتها قدم التخت الموسيقي النسائي ماه بانو بحضور عازف على آلة التار الوترية باقة من الأغاني الإيرانية الشائعة ضمن ديكور مسرحي سياحي الطابع استقدم معه إلى الصالة الأثاث والأزياء الإيرانية الأمسية الأولى Persien I وبـ لقاء غربي شرقي West östliche Begegnung كعنوان تحتي فكانت من نصيب القاعة الصغرى المخصصة لموسيقى الحجرة استهلت بقسم أول مقطوعة لثنائي آلتي كمان وكونترباص ذات طابع استشراقي ألفها الألماني فولفغانغ فون شڤاينيتس Wolfgang von Schweinitz عنوانها My Persia وأداها كل من النرويجي هيلغه سلاتو والألماني فرانك راينيكه أما القسم الثاني فقد حظي بعرض متميز لجهة النوعية والحضور الفني والكمون التعبيري أحياه ثنائي موسيقي يضم كلا من الإيرانيين مجيد قادياني منفردا في البداية على آلة السيتار الوترية ثم التار الوترية أيضا بصحبة نيلوفر محسني على آلة التومباك الإيقاعية من خلاله قدم الزوج الموسيقي ارتجالات مرسلة استلهاما لألحان وأغان إيرانية معروفة على الرغم من الاختلاف الشاسع في السياق الثقافي والحقبوي اللغة الموسيقية والوسائل التقنية تلاقى كل من سمفونيات ماهلر وارتجالات قادياني ومحسني عند نقطة ألا وهي العاطفة إذ سعى قادياني ومحسني كما سعى ماهلر كل بأدواته على حد تعبير الأخير في إحدى رسائله الشهيرة إلى صديقه المؤلف ماكس مارشالك إلى الوصول إلى قاع الأشياء وذلك عبر الضرب برقة حينا وحينا بشدة على وتر القرار عميقا في النفس حيث يتجاوز وسيط التعبير الموسيقي البنى والمفاهيم اللغوية التي ينشئها الذهن فيتوجه إلى العاطفة بوصفها شريكا أساسيا في تكوين وعي الإنسان تلك النقطة العابرة للهوية كانت قد أشارت إليها الفيلسوفة الأميركية مارثا نوسباوم في كتابها المفتاحي عن العاطفة تضاريس الفكر The Upheavals of Thought حين كتبت أن لعل الموسيقى عالمية الأثر بمعنى أن شعوبا تفصلها عروض شاسعة من ثقافة ولغة بمقدورها حب الموسيقى ذاتها الكمون التعبيري للموسيقى اليابانية أو الهندية على سبيل المثال والإيرانية في سياق هذا المقال لهو مدهش بالنسبة إلى الأذن الغربية كذلك هو الأمر عند سماع سمفونية لماهلر من دون الإلمام بسمفونياته الأخرى بالنسبة إلى ماهلر شكلت الكتابة الأوركسترالية عالية الكثافة المفاعل الصوتي بغية إنتاج الكمون التعبيري موسيقيا كان ذلك في فترة لم تكن فيها السينما كما هي اليوم قد نضجت تكنولوجيا بعد كعنصر إبهار للمتلقي وأداة استئثار بخياله وخوالجه لذا طورت على يديه ومن قبله المؤلف الألماني ريتشارد فاغنر قدرات الأوركسترا لجهة الطاقة الصوتية والمعالجة الهارمونية والتوزيع الآلي على الصدم الشعوري هكذا حين كتبت فتاة في العاشرة رسالة تسأله فيها عما إذا كانت الكتابة لأوركسترا كبيرة الحجم ضرورية أجاب ماهلر ثمة بعض الأفكار العاطفية تسعى إلى تشكيلات موسيقية معينة في المقابل وفي الموسيقى الشرقية عموما والإيرانية في هذا السياق يلعب المقام الشرقي من خلال بعيداته النغمية أي ما يعرف دارجا بـالعربة أو الربع تون الدور الأكثر تفردا في الاستثارة الحسية عبر وسيط الصوت وبمجرد آلة منفردة أو حنجرة وحيدة وعليه التأثير بالعاطفة تجاوزا للذهن مرورا بالمفاهيم والمفردات وصولا إلى قاع الأشياء ذلك أن الطبيعة اللاخطية واللامعيارية للبعيد تمنحه ذلك التموضع البرزخي ما بين الراحة وبين القلق بين اليقين وبين الشك بين المطلق وبين النسبي إذ عنده تقف الكلمات عند حدود معانيها

ارسال الخبر الى:

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2016- 2025 يمن فايب | تصميم سعد باصالح