إنجاز فيلم عمل سياسي بامتياز مهما كانت النية الأولية أو نوع العمل السينمائي الذي يشتغل عليه المرء لكن السماح بمشاهدة الفيلم وتداوله ــ والانتقال من نظرة إلى نظرة ومن متفرج إلى متفرج ما يخلق ديناميكيات جدليةـ ــ عمل سياسي أيضا أحيانا يمكن لإخراج فيلم قديم من الدرج أن يسمح للمرء بإعادة اكتشافه بصورة أكثر إيلاما وموضوعية لا يعني هذا أن السينما يجب دائما أن تعلن معاصرتها لكن في بعض الحالات تبدو قدرة منتج ما على البقاء حيا بعد وقت إنتاجه مفاجئة تقريبا عامان لا يمثلان شيئا في حياة إنسان أو جيل لكن الخطاب يتغير فجأة إذا تناول المرء مسألة السرد ذلك المصطلح الملح راهنا في قاعات الصحافة التلفزيونية تلك الأماكن التي تعكس نفسها باستمرار حيث تعرض المواقف المسبقة من دون براعة فكرية كبيرة وتكون غالبا غير قادرة على وضع نفسها في جدلية حقيقية مع العالم الخارجي ومع ما يستلزمه غاي دافيدي ضد أمته شن الحرب عمل من أعمال السرد بهذه الكلمات يفتتح المخرج الإسرائيلي غاي دافيدي Guy Davidi براءة Innocence المعروض للمرة الأولى عالميا في الدورة الـ79 31 أغسطس آب ـ 10 سبتمبر أيلول 2022 لـمهرجان البندقية السينمائي موسترا برنامج آفاق حينها كانت إسرائيل دولة غاي دافيدي المولود فيها والمنتمي إليها في لحظة سلام ظاهري على شاشات فينيسيا كانت الاتهامات القاسية التي وجهها غاي دافيدي ضد أمته قائمة على الحرب وعلى ممارستها ودراستها وإعدادها والدعاية لها خصوصا لكن ليس فقط ضد السكان الأصليين لبلد نهب وتغيرت ملامحه ولا يزالون مفتقرين إلى الاعتراف السياسي الدولي والاتهامات تتجسد بوضوح للجميع المثير للاهتمام أنه بعد أكثر من 600 يوم على هذا العرض الأول تعيد شركة إيطالية شجاعة عرض براءة أمام جمهور إيطالي إعادة اكتشاف تلك اليوميات الخاصة والاعترافات الفظيعة لجنود إسرائيليين غير قادرين على تحمل حياة التجنيد الإلزامي إلى حد الانتحار بمثابة ارتداد مربك ومدو أمام صور لا تطاق للدمار اللاحق بغزة والتدمير واسع النطاق لكل أشكال البناء والهندسة المعمارية البشرية التي يمكنها حماية الفلسطينيين انطلق غاي دافيدي 1978 من حقيقة عملية راسخة في الحياة اليومية لبلده التجنيد الإلزامي المفروض على الإسرائيليين ومدته ثلاثة أعوام للرجال وعامان للنساء التزام لا مفر منه يشهد على التموضع الأيديولوجي لإسرائيل كآلة حرب عملاقة ودولة عسكرية حقيقية يمكن لكل عنصر بشري فيها أن يصبح ترسا فالحرب لازمة لاستمرار دولة الاحتلال من هذه الحقيقة اتخذ دافيدي طريقا وعرة وشجاعة واختار مواجهة السردية الإسرائيلية السائدة مقدما بدلا منها وصفا لحالات انتحار بين مجندين شباب في الجيش الإسرائيلي ومستعينا برسائل خاصة إلى الأقارب ومذكرات مكتوبة في التجنيد كمحاولة لإظهار الرعب الذي يولده هذا النهج الحربي في الحياة ليس في السكان الخاضعين لقوة الحرب فقط بل أيضا في الجنود أنفسهم المضطرين إلى رؤية أشياء لا توصف والمشاركة في أعمال يستحيل أن يخرجوا منها سالمين إن لم يكن جسديا فأقله نفسيا حب الجيش فرض يظهر براءة أيضا أن هذا المستوى من إكراه المواطن لقبوله في المجتمع الإسرائيلي من دون طرح أسئلة مزعجة بشأنه يحتاج إلى عمل مضن ودعاية ملتوية وإصرار وتواصل هكذا يجري عمل دؤوب لتقريب الأطفال الإسرائيليين بدءا من المدرسة الابتدائية من الجيش الإسرائيلي أنبل جيوش الأرض وأطهرها كما يزعم ذبابه الإلكتروني هناك يتعلمون أن حب الجيش فرض عليهم لأنه يمثل المرساة الوحيدة لخلاص الدولة وبقائها هذا الاستصلاح أو غسل الدماغ المتواصل يحفر بحسب دافيدي ثلما في أذهان المواطنين الإسرائيليين ويواجه في السياق بالانغماس في يوميات وحميميات أولئك الذين عارضوا بشدة سياسات الأيديولوجية السائدة أو لم يتحملوا الصمود أمام الاصطدام بمثل هذه الآلة القاتلة يحارب الحميمي والخاص بروباغندا الدولة وكذلك يفعل براءة الذي قد يكون معيبا في نواح لكنه قوي ومؤثر يطلق بشجاعة لا تلين لائحة اتهام متينة ضد أساس البنية السياسية التي تقوم عليها أمته اليهودية من وجهة نظر وثائقية براءة معقد ومتقن بسبب الصعوبة البالغة في وضع يديه على مذكرات الجنود وشهاداتهم الذين فضلوا الموت على الكراهية والجهل وبسبب تحفظ أقارب هؤلاء الشباب الذين يفضلون عدم التحدث كثيرا في الموضوع خوفا أو ربما لإحساس دفين بالخزي والعار يتقدم غاي دافيدي تحت الجلد محاولا تجنب أي بلاغات خطابية قدر الإمكان معالجا القضية مباشرة لكن من دون التأكيد الزائد على الحاجة وبالتالي يسلط الضوء بقوة أكبر على الخلل البنيوي في إسرائيل وتناقضاتها كوجود قاعدة سياسية قوية لكنها في الواقع أقله في ما يتعلق بالخدمة العسكرية محرومة أي حق محتمل في تقرير المصير والمعارضة هذا الإنكار الذي يمكن أن يؤدي إلى اتخاذ قرار الانتحار وبالتالي القضاء نهائيا على الهوية لا ينعكس في الحياة اليومية طبعا لا يتجنب غاي دافيدي بعض التعليمية الزائدة وبعض التكرار في البنية لكن فيلمه يملك قوة تخريبية لشخص يشعر بالحاجة الملحة إلى التعبير أقله عبر السينما عن هذا الرفض المحرم ذات يوم لمخاطبة أمثاله من المنشقين عن صف العسكرة الإسرائيلية الأبدية كصانعي أفلام إسرائيليين آخرين يقف غاي دافيدي في جهة الانشقاق والكفر بالدولة اليهودية معارضا إنكار المجتمع الإسرائيلي نفسه للوضع الراهن وتعاميه المتعمد عن السير في اتجاه مختلف تماما مع عدم وجود ما يزعجه حقا ولا معاناة الآخرين الفلسطينيين ولا استنكار المجتمع الدولي ولا موت أبنائه أعمال معاصرة قليلة شككت بهذه الحدة في العلاقة المشوهة بين الأيديولوجية الشخصية والمهيمنة والفكر الفردي والتطبيق العملي الجماعي