خطة بايدن كيف تنصب الولايات المتحدة الفخاخ في لغة الاتفاقات
٩٤ مشاهدة
تتركنا الخطة التي طرحها الرئيس الأميركي جو بايدن لإنهاء الحرب على غزة أمام سؤال منطقي إذا كانت الأخيرة متطابقة مع المقترح الذي وافقت عليه حماس آنفا في السادس من مايو أيار الماضي كما يقول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن فلماذا يعاد تحويرها لغويا وإخراجها في صورة مقترح إسرائيلي وما الذي يمكن أن يستتبعه تغيير مفردة أو إسقاط حرف هنا أو هناك تحيلنا تلك الأسئلة على عقود من سياسة الغموض اللغوي التي ما زالت تتحراها إسرائيل ورعاتها منذ المعاهدة الأولى في الصراع طلبا لأحد هذه الأهداف أو كلها مجتمعة كما يشرح جويل سينغر الذي كان أحد مفاوضي إسرائيل الرئيسيين على مدار 25 عاما إيجاد لغة مخففة من لغة التسليم المطلق لمطالب الطرف الآخر الإبقاء على مساحة تفسيرية واسعة ترك احتمالات المناورة مفتوحة للمستقبل كانت حالة نص القرار 242 الذي أعقب حرب الأيام الستة عام 1967 أحد الأمثلة التي تلاقت فيها كل تلك الأهداف مجتمعة واليوم يبدو أن كثيرا مما حدث آنذاك يكرر نفسه لام التعريف مجددا تظهر في خطاب بايدن رغم أن تفاصيل خطة بايدن لم تطرح بشكل كامل في الإعلام بعد إلا أن التصريف اللغوي الذي استخدمه الأخير عند الحديث عن الانسحاب من غزة وضمنت لاحقا في قرار مجلس الأمن يذكر بالحيلة الصياغية المضمنة في قرار 242 إياه حينما أسقطت لام التعريف في النسخة الإنكليزية من القرار بخلاف النسخ الفرنسية والإسبانية والصينية ليصبح منصوصه انسحاب قوات إسرائيل المسلحة من أراض احتلت في النزاع الأخير بدلا من الأراضي التي احتلت آنذاك خرج مندوب بريطانيا في مجلس الأمن اللورد بارون كارادون ليقضي بأن هذه الصيغة نهائية ولا تقبل المساومة وبأنه لا مناص لجميع الأطراف من الالتزام بها يسلك بايدن المسلك ذاته اليوم حينما يتحدث عن انسحاب قوات إسرائيلية لا القوات الإسرائيلية من غزة مستطردا في نبرة إلزام بأن على حماس الموافقة على الاتفاق ثم مثبتا ذلك في قرار من مجلس الأمن حظي بإجماع كالذي حظي به قرار 242 إلا من روسيا الاتحاد السوفييتي التي رأت فيه للمفارقة نصا غامضا ذلك التغاير في الصياغات في خطاب بايدن يبدو مفصليا بالنظر إلى أن مقترح مايو ينص حرفيا على انسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل خارج قطاع غزة ثم عطفا على ما كشفته صور أقمار اصطناعية كما ورد في تقرير لـسي أن أن في مارس آذار الماضي عن حفريات إسرائيلية على طول ممر نتساريم تؤسس لوجود عسكري دائم ومشرف على البحر على مقربة من الرصيف المائي الأميركي ولفصل شمال القطاع عن جنوبه وذاك ما أكدته الشهر الماضي صحيفة يديعوت أحرونوت حينما كشفت عن إتمام إسرائيل بناء أربع قواعد عسكرية على طول ذلك الممر يضاف إلى ذلك ما وثقته واشنطن بوست في يناير كانون الثاني الماضي من إقامة إسرائيل منطقة عازلة بمساحة تزيد عن نصف ميل داخل حدود القطاع ما تجدر ملاحظته هنا هو أن المقترح الذي وافقت عليه حماس يأتي على ذكر محور نتساريم ووادي غزة بالاسم عند الحديث عن انسحاب جيش الاحتلال في المرحلة الأولى بينما يقصر الاقتراح الإسرائيلي أقله في الصيغة الواردة على لسان بايدن الانسحاب على المناطق المأهولة أعادت حماس تأكيد ذلك مجددا حينما طلبت في تعديلاتها أولا أن يسبق الانسحاب من محور نتساريم وفيلادلفيا إطلاق سراح الأسرى في المرحلة الأولى وأن يكون خلال أيامها الأولى وكذلك حينما رأت في جملة الانسحاب الإسرائيلي من غزة بعض الغموض لتطالب بصياغة تنص صراحة على الانسحاب إلى حدود ما قبل السابع من أكتوبر الماضي وفق ما صرح به القيادي في حماس أسامة حمدان لـالتلفزيون العربي ولعل ما يدلل أكثر على أن غياب لام التعريف في هذا الموضع لم يكن سهوة صياغية وحسب أو مجرد استعاضة عنها بحقيقة أن القوات الإسرائيلية Israeli Forces معرفة بذاتها هو ظهور التعريفات في مواضع أخرى بشكل يرفع اللبس تماما لنا أن نلاحظ على سبيل المثال كيف تنتقل الصياغة من التعريف الواضح إلى التخفيف المبهم في البند الأول من قرار مجلس الأمن على سبيل المثال إطلاق سراح رهائن بما يشمل النساء والمسنين والجرحى وإعادة بقايا بعض الرهائن الذين قتلوا ومبادلة أسرى فلسطينيين وانسحاب قوات إسرائيلية من المناطق المأهولة في غزة هنا في وقت يعرف الرهائن إن كان لغويا عبر الإضافة أو اسميا عبر تحديد النساء والمسنين والجرحى ذكر الانسحاب مفردا بصيغة قد تجعله في أية مناورة تفسيرية إسرائيلية جزئيا وغير مكتمل لنا أن نلحظ بموازاة ذلك كيف تقف لام التعريف بكامل ثقلها عند اقتضاء ضرورة أن تكون غزة والضفة الغربية موحدتين تحت السلطة الفلسطينية من دون إتباعها على سبيل المثال بمفردة منتخبة في صياغة قد تحمل إحالات قسرية على السلطة بشكلها الحالي في رام الله مراجعة دروس المعاهدات السابقة لكن إصرار حماس على صياغة تنص على الانسحاب إلى حدود ما قبل السابع من أكتوبر قد ينافى بحقيقة أن الخطة الأميركية تضمنت إشارة صريحة إلى رفض إحداث أي تغيير في غزة ديمغرافي أو جغرافي بما في ذلك أي إجراءات قد تقلص مساحة القطاع في الواقع لا يختلف ذلك البند عن آخر ابتدأ به القرار 242 الذي وافقت عليه إسرائيل أساسا ويشدد على عدم مقبولية ضم أراض عبر الحرب لكن كما يشرح سينغر فإن الغموض قد يتجاوز أحيانا مجرد مفردة هنا أو هناك ليصبح غموضا عبر النص هكذا مثلا يتنافى هذا البند مع آخر في نص القرار يؤكد أن الانسحاب الإسرائيلي من أراض عربية احتلت في النزاع الأخير يجب أن يكون إلى حدود آمنة ومعترف بها من دون أن يعينها على وجه الدقة تاركا بذلك مسألة حسمها إلى اتفاقات مؤجلة لإسرائيل أن تخلق دونها الوقائع على الأرض بما يلبي هواجس أمنها في الحالات التي يكون فيها الانسحاب نهائيا ومحددا بنطاق زمني وجغرافي كما يشرح سينغر لا يستدعي الأمر تشعبا في البنود بل جملة صريحة ومباشرة هذا ما حدث على سبيل المثال في أحد تلك الاتفاقات المؤجلة اتفاق كامب ديفيد الذي نص بشكل واضح على انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء كما كان عليه الحال في الرابع من يونيو حزيران 1967 مقابل ضمانات أمنية كبيرة من جانب مصر النص من قبل بايدن وبصيغته الصادرة عن مجلس الأمن يفتقر كذلك للعبارات المباشرة بينما تظل صيغة عدم تقليص حدود القطاع أو عدم إحداث تغيير ديمغرافي أو جغرافي فيه ليست حاسمة بما فيه الكفاية لتمنع إنشاء قاعدة عسكرية إسرائيلية في خط نتساريم أو عند محور فيلادلفيا أو رقابة على معبر رفح وتلك أهداف إسرائيلية بعد انتهاء العمليات وفق ما أفصح عنه مصدر مسؤول لهيئة البث الإسرائيلية الرسمية السبت لكل ذلك تشي الصياغة التي تطالب بها حماس اليوم عند الحديث عن الانسحاب وهي مطابقة لتلك التي اعتمدت في كامب ديفيد بأن المقاومة استخلصت الدروس من معاهدات الماضي يكشف أبا إيبان مثلا وهو الذي كان وزير الحرب الإسرائيلي عام 1967 في مقالة ضمن كتاب منشور عام 1982 بعنوان قرار مجلس الأمن 242 حالة دراسية عن الغموض الدبلوماسي كيف أن إسقاط لام التعريف عن مفردة انسحاب كان ثغرة لمصلحة قضيتنا وكيف أن إضافة نص عدم مقبولية ضم الأراضي عبر الحرب كانت لمجرد إسكات الاحتجاج العربي على غموض النص الإنكليزي يروي الكتاب كذلك كيف أبلغ السفير الأميركي في مجلس الأمن الملك حسين بن عبد الله حينما سأله عن إسقاط لام التعريف أن كليهما يعرفان أن سيناء جزء من مصر والجولان جزء من سورية والضفة الغربية جزء من الأردن ثم كيف عاد وزير الخارجية الأميركي ويليام روجرز بعد عامين من إقرار القرار ليقول إن حدود عام 1967 هي خطوط هدنة وليست حدودا سياسية نهائية قرار مجلس الأمن لا يدعم ولا يلغي خطوط الهدنة حدودا سياسية مؤكدة يمضي إيبان ليقول إن الحكومة الإسرائيلية لم تكن لتقبل بقرار مجلس الأمن لولا التأكيدات الأميركية والبريطانية التي وصلتنا بأن محو كلمة كل الأراضي كان متعمدا أحاييل نتنياهو في فقه المعاهدات ثمة ما يصطلح على تسميته الغموض البناء وهو الحالة التي يترك فيها طرفا الاتفاق عن دراية بعض المفردات المموهة لحفظ ماء الوجه وتجنب تقديم تنازلات أمام الجمهور كان هذا الحال في قرار 242 ذاته بإقرار المتحدث باسم الدولة المصرية آنذاك محمد الزيات الذي كتب في المصدر المذكور آنفا أن العرب مرروا نص القرار باعتبار أنه يتضمن غموضا بناء لكن لاحقا كان هذا الالتباس بناء في معظمه بالنسبة لإسرائيل التي انتهزت تلك الثغرة لقضم ما تبقى من أراضي عام 1967 يوميا أما إزاء انتهازية شخص كنتنياهو يمتد الأمر إلى ما هو أبعد في فيديو نادر له التقطته القناة الثانية عشرة سرا في مطلع الألفية الثانية يشرح نتنياهو كيف استفاد من ثغرة في اتفاق أوسلو ستتيح له التخلص منه إلى الأبد يقول إن الاتفاق تضمن ما نصه أن الانسحاب الإسرائيلي في مرحلة الوضع النهائي الدائم يستنثي المناطق العسكرية والتجمعات الاستيطانية وهنا ترك تعريف المناطق العسكرية مفتوحا وغير مقيد حتى بوجود عسكري فعلي يضيف أنه في وقت لاحق حينما كان على حكومته التصديق على اتفاقية الخليل اشترط رسالة مكتوبة من إدارة بيل كلينتون بأن يكون تعريف المناطق العسكرية في الاتفاق معهودا إلى إسرائيل وحدها وهكذا في اللحظة ذاتها يقول مفاخرا قضيت على اتفاق أوسلو على هذا النحو يمكن تصور نتنياهو وهو يجلس اليوم متربصا لثغرة أخرى وأوسلو ليست إلا فصلا واحدا من سيرة رجل لا يرى محرمات في سبيل الربح الكامل ولا فاصلا بين معاركه الشخصية ومعارك الدولة ما كان نهجه في الاتفاقات السابقة حينما دأب على الخروج بعد كل هدنة ممهورة بتوقيع الوسطاء لينفي ما أعلنه يتكرر اليوم عبر رفضه الإقرار علنا بالموافقة على الخطة المطروحة وتصريحاته المتكررة تسريبا وعلانية بأن الاتفاق يتيح تحقيق أهداف الحرب كاملة قد يخدم هذا مصالحه السياسية ويحول دون إسقاط حكومته ويحفظ ماء وجهه أمام الجمهور بقدر ما يترك باب المناورة مشرعا مستقبلا هذا نهجه مع حلفائه كما نقرأ في مذكرات وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري الذي كشف أن نتنياهو هو من بادر لاقتراح اتفاق وقف إطلاق النار عام 2014 مع تنازلات لغزة ثم سارع بعد عرضه من قبل كيري إلى تسريب مسودة القرار على أنها أفكار لحركة حماس ما أظهر الوزير الأميركي وكأنه يتبنى طرح الحركة هذا أيضا نهجه داخليا مع نظرائه في السياسة كما فعل حينما انقلب مثلا على اتفاق التناوب بينه وبين وزير الحرب المستقيل بني غانتس حينما وجد ثغرة في الاتفاق عبر قانون الميزانية لكل ذلك لا يمكن ترجيح أن يقبل شخص بهذا التاريخ بأي اتفاق يظهره مهزوما ولا استبعاد أن ينقلب على أي اتفاق ليبدو منتصرا ربما أقصى ما تستطيعه حماس هو أن تجعل الأمر يبدو أكثر فجاجة