باريس في عيون أولى
لم تُحرز مدينةٌ في الغرب القسط الوفير الذي حازته باريس في كتابات زوّارها ومن أقاموا فيها من الكتّاب والفنانين من غير أهلها. وفي المدوّنة العربية، الأدبية السردية خصوصاً، نتاجٌ وفيرٌ من اليوميات والرحلات والسّير والنقد الثقافي وأدب مدن، والذي لعاصمة فرنسا حضورٌ ثريٌّ ومتنوّع فيه منذ كتاب المصري رفاعة الطهطاوي الشهير تخليص الإبريز في تلخيص باريز، وقد صدر في العام 1834، وقد ضجّ بدهشةٍ حضاريةٍ أصابت الشيخ المعمّم، وقد رأى باريس من أعظم مدائن الدنيا ومن أعظم مدائن الإفرنج، وأحكم سائر بلاد الدنيا وديار العلوم البرّّانية وأثينة الفرنسية. وقد انشغلت دراساتٌ على سويّة طيّبة بتفسير هذا الولع المبكّر عربيّاً بباريس، والذي أظنّه ما زال ماثلاً، وقد أخذ تعبيراتٍ متعدّدة لدى من كتبوا سيرهم ويوميّاتهم فيها وانطباعاتهم عنها، وبسطوا عمّا رأت عيونُهم وما أصاب نفوسهم وأرواحهم من المدينة التي أخذ بها أدباءُ عالميون كبار، اختاروها مقاماً لهم، أو منفىً اختيارياً من بلادهم، منهم ماركيز وهمنغواي وكونديرا. ولا أظنّني أجازف لو خمّنت أن شيئاً من غبطة الطهطاوي بباريس ظلّ باقياً في كتّابٍ عربٍ بلا عدد زاروها أو أقاموا فيها أو ما زالوا يقيمون. وإنْ، بالطبع، ليست ثمّة حالة الاكتشاف التي استبدّت بالفقيه، حافِظ القرآن الكريم، الطهطاوي، الذي وصل إلى جنّة العصر (وصف فرنسيس مراش باريس لاحقاً)، في منتصف عشرينيّاته. وإنْ، بالطبع مرّة ثانية، تغيّرت الدنيا وصار العالم قريةً صغيرةً (بتعبير مارشال ماكلوهان في الستينيّات) ثم أصغر من قريةٍ بفعل ثورة المعرفة وتقنيّاتها.
لم أجدني، في جولة ثلاث ساعاتٍ في بعضٍ من وسط باريس، حيث ساحاتٌ وحدائقُ وشوارع مكتظّة، برفقة الصديقين المقيمين في المدينة منذ أزيد من أربعة عقود، محمد حافظ يعقوب وبشير البكر، والصديق القادم من مدريد زائر باريس مرّات جعفر علوني، لم أجدني في دهشة جدّنا الطهطاوي، وإنما أردت الاكتفاء بأن ترى عيناي ما قرأتُ وعلمتُ وسمعت، فكان كافياً أن يشير محمّد إلى متحف اللوفر، بل إلى الباب الذي دلف منه اللصوص الذين سرقوا ما سرقوا منه قبل أيام. وكان كافياً
ارسال الخبر الى: