اليمين المتطرف في فرنسا تهديدات للثقافة بالجملة

٤٦ مشاهدة
بعد التقدم الكاسح الذي حققه أقصى اليمين في فرنسا تحت راية حزب التجمع الوطني بقيادة جوردان برديلا الذي يخوض الانتخابات التشريعية المقررة اليوم بات من العاجل التساؤل عن مآلات الثقافة العربية في هذا البلد بل وعن وضع الثقافة عموما في البرامج السياسية لا سيما أن هذا الحزب مثل بقية الأطياف الأخرى لا يولي أدنى اهتمام للقطاع الثقافي الوطني ناهيك عن الثقافات الأجنبية مع أنها طالما مثلت رافدا فعليا للهوية الفرنسية يمكن لفوز هذا الحزب أن يحمل في طياته مجموعة من الأخطار الحقيقية أولها ما يتعلق بتمويل الجمعيات الثقافية الخاضعة لقانون 1905 الذي يسمح لها بممارسة أي نشاط شريطة احترام المبادئ الجمهورية علما أن هذه الجمعيات تتوفر على هامش لا بأس به من الحرية يمكنها إلى حد ما من تثمين العناصر الثقافية الأجنبية مثل تعليم اللغة العربية وعقد ورش خط فضلا عن إقامة عروض رقص وغناء وحفلات تذوق للأطباق ومعارض ملابس وغيرها من مظاهر الاختلاف التي لم تمانع فرنسا في تثمينها واستعراضها ضمن أطر واسعة نسبيا ولا شك أن المجالس البلدية وهي التي توفر التمويل الرئيس لهذه التظاهرات إن هي خضعت لهذا الحزب فإنها ستقطع مثل هذه المساعدات تحت مسمى الأفضلية الوطنية بل وقد تحاربها فقط لأنها تفوح برائحة الخارج والأجنبي المغاير مفاهيم تؤول إلى تقديس الثقافة الأم والهوية الوطنية ويطاول الخطر الثاني الجمعيات الثقافية التي تمارس أنشطتها في المساجد والمصليات وهي هيئات قانونية لا غبار عليها إلا أنها تركز في برامجها على المحتوى الثقافي الديني وتوفر إلى جانب تعليم اللغة العربية دروسا في العقائد وتحفيظ القرآن وقواعد الفقه ولا شك أن اليمين إن وصل إلى سدة الحكم سيربط هذه الأنشطة بهوسه من الإسلام والمسلمين وسيضخمها جاعلا منها خطرا يتهدد الجمهورية والهوية في حين أن حرية الضمير مكفولة بالدستور وأن مثل هذه المضامين العقدية لا تشكل أدنى خطر لأن مقرها الوجدان كما تتوفر كل الديانات الأخرى كاليهودية والمسيحية والبوذية على مراكز للتعليم الديني تشرف عليها جمعيات بعضها يتمتع بتمويل الدولة الفرنسية ذاتها إلا أن ملاحقة مثل هذه الهيئات سيكون تحت شعار محاربة التطرف والانعزال وما إلى ذلك من الأسماء التمويهية ولعل الخطر الأدق يكمن في ازدراء الثقافة العربية عبر تنميطها وحصرها في أطر سلبية مشوهة كالفولكلور والملابس الفضفاضة وبعض الأطباق عموما الكسكسي مع حجب كنوزها الفعلية في الآداب والسينما والفلسفة والمسرح ذلك أن اليمين المتطرف قادر على ربطها بمظاهر مجتزأة تسهل له بعد ذلك مكافحتها وقطع المساعدات عنها عبر وضعها في خانة السخيف والمتخلف وهي عين استراتيجيته التي يوظفها مع الفنون العصرية التي يختزلها في أشكال غرائبية ومع أن كلمة ثقافة لم ترد إلا مرة واحدة في برنامج برديلا الانتخابي فإن خطابه السياسي يستنجد بمفاهيم غامضة تؤول إلى تقديس الثقافة الأم والهوية الوطنية التي تستند إليها لذلك من المشروع أن نتساءل هنا عن وجود مثل هذه الثقافة الوطنية أصلا فإذا ما استثنينا اللسان الفرنسي الذي يعبر عن هذه الثقافة وهو لسان مشترك بين دول أخرى مثل بلجيكا وكندا وحتى بعض دول أفريقيا ندرك أن المحتوى الذهني هو نتاج العديد من المؤثرات والتقاليد التي وفدت إلى فرنسا على امتداد تاريخها الطويل من مناطق أوروبا وآسيا التي يستحيل اليوم حصرها وتحديدها فتاريخ الثقافة في فرنسا مثل أي تاريخ غيره وليد تفاعلات ذاتية وخارجية يتقاطع فيها المحلي بالأجنبي لينتج مضمونا ما هويته الوحيدة في أصالته الذاتية لا في انتمائه إلى رقعة جغرافية لها حدود ملموسة ثم أليست الثقافة الفرنسية هي التي سافرت بذاتها عبر الماضي القريب للبحث عن هذه الروافد في الخارج ألم يكن الاستشراق في جوهره مسارا فكريا هدف وقتها إلى السيطرة العملية على الآخر المسلم العربي ومحاصرة كل إنتاجه الحضاري المادي منه والذهني من أجل تيسير الهيمنة عليه وكما دلل سمير أمين في كتاباته على أن الازدهار الاقتصادي الفرنسي مدين للمستعمرات السابقة يمكننا قياسا على تحاليله التأكيد على أن الثقافة الوطنية التي يتبجح اليمين بثرائها مدينة هي الأخرى لكنوز الوطن العربي وموروثاته الثقافية التي مثلت موضوع الاستشراق طيلة القرنين الماضيين ومن ثم مورست عليها كل آليات الاستكشاف والنهب نسائل مثلا ماذا يبقى من متحف اللوفر جوهرة المؤسسات الثقافية في باريس إذا أخليناه من الثروات والتحف المنهوبة من مصر والعراق والشرق الأوسط والأقصى والمغرب العربي وبلدان أفريقيا ألا يعود غنى هذا المتحف بالأساس إلى ما فيه من الأجنحة الأجنبية وما تتضمنه من الكنوز المستجلبة من بعيد أليس ما تأتى من الذاكرة الفرنسية التي تستحضر باعتبارها المرجعية الأساسية في النسيج الأيديولوجي اليميني هو نتيجة تفاعل واسع بين عناصر متداخلة من الإمبراطوريات البيزنطية والرومانية والفرنجية ضمن صراعات العصور الوسطى التي لم تنجل حدودها إلا مؤخرا ولا داعي هنا إلى العودة لمبدأ الاستثناء الثقافي الفرنسي الذي طالما استدعاه اليمين شعارا واعتمده خلفية أيديولوجية يحرك بها الجماهير في حين أنه لا يعدو أن يكون مجرد راسب من خطابات التفوق الفرنسي وما ولدته من ممارسات استعمارية واستعلائية استنقصت من خلالها ثقافات الآخر واعتبرت خارج التاريخ كما أنه مبدأ جوهراني يقوم بشكل غير واع على المركزية الأوروبية التي تسعى إلى ربط ما في العالم من حضارات بها كأصل ما ورائي ولذلك فإن خطر اليمين المتطرف على الثقافة العربية كخطره على ثقافة فرنسا ذاتها وعلى مجتمعها وسياستها ضيق أفق وانغلاق على الذات ورفض للمغايرة والاختلاف ولا يمكن للفنون والآداب أن تذعن لمثل هذا التهديد لأنها بطبيعتها كاسرة لكل هوية مغلقة متجاوزة الحدود الموهومة التي يستميت الحزب في رسمها ولن تقدر مثل هذه الخطابات على خنق إرث يعود إليه ملايين العرب الفرنسيين بمبدعيهم وفنانيهم لأنها حية في وجدانهم وأجسادهم وهي مكون جوهري في اللغة والخيال الجمعي لا يمكن لأي حزب سياسي مهما قويت شوكته أن يمحو آثار العروبة التي انطوت في الشخصية الجماعية ومع ذلك جدير بالملاحظين أن يراقبوا من كثب ما قد يحوكه هذا الحزب من دسائس ضد الثقافة باسم الهوية وأحيانا باسم أصالة مزعومة يجري تضخيمها فقط من أجل الإزراء بالثقافات الأخرى لتضييق الخناق عليها مهمة المثقف في أيامنا الحساسة تدقيق النظر في هذا الخطاب حتى يمنع بالكلمة النافذة كل انطواء هوياتي لن تعاني منه الثقافة فحسب بل المجتمع الفرنسي برمته الذي سيكون أول ضحايا ضمور المغايرة انكفاء على الذات وتكرارا لمقولاتها التي عفا عليها الزمن كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح