عن نهاية اليقين وآليات فهم واقعنا اليوم
إنّ مسيرة الفكر الإنساني وُسمت بنزعة جذرية نحو القطعية المعرفية، حيث تجسّدت الرؤية التقليدية للعالم في أُسُس المنطق الأرسطي الذي أقرّ بثنائية مُطلقة تحكم كلّ شيء (إمّا صحيح أو خاطئ، إمّا وجود أو عدم). لقد حكمت وصادرت هذه الثنائية الأرسطية الصارمة، المُكرِّسة لمبدأ الوسط المرفوع، العقل قروناً طويلة، مُفترضة أنّ الواقع كيان حتمي وموضوعي يمكن اختزاله في قيمتين محدّدتين، هي الأساس الرياضي لأبسط أشكال اليقين. غير أنّ التفحّص العميق لمشهد الوجود والتجربة المعرفية كشف عن قصور بنيوي ومعرفي في هذه المقاربة الاختزالية، فالواقع ليس منظومة من العلاقات الميكانيكية البسيطة القابلة للتفكيك إلى مفردات قطعية، إنّما الواقع نسيج غامض ومُتدرّج من الأحوال والظواهر المُعقّدة التي تتلاشى فيها الحدود الحادة وتسيطر عليه الاحتمالية بدلاً من الحتمية المطلقة.
إنّ الفلسفة التي تتخذ التوسّط هدفاً وموضوعاً لها هي مسعى جاد وعميق وليست مجرّد ترفٍ فكري ثانوي، بل ضرورة عقلية لمواجهة سيولة الوجود وإدراك تعقيد الظواهر التي لا يمكن أن تقتصر على التصنيف الثنائي. ومن هذا المنطلق تبلور المسعى نحو المنطق متعدّد القيم كأداة تحليلية تمنح العقل مرونة معرفية لملاحقة درجات الحقيقة الدقيقة. وقد أسّس الفيلسوف البولندي يان لوكاشيفتش، في مطلع القرن العشرين، المنطق الثلاثي القيم (صحيح، خاطئ، ممكن)، مُدرجاً قيمة ثالثة حاسمة تعكس حالة اللايقين المعرفي أو الجهل، بينما قام عالم الرياضيات والمنطق الأميركي إيميل بوست بتعميم هذه الفكرة لتشمل أيّ عدد من القيم المنطقية، مُشرعاً الباب أمام التحرّر الفعلي للعقل من قيد القطبين الثنائيتين.
الفلسفة التي تتخذ التوسّط هدفاً وموضوعاً لها ضرورة عقلية لمواجهة سيولة الوجود
يجد هذا التحوّل الفلسفي إلى اللامركزية المنطقية سنده الأقوى والأكثر حداثة في الفيزياء الكمومية، التي قدّمت برهاناً لا يُدحض على أنّ الحتمية التقليدية هي مجرّد وهم ينطبق على المقاييس الكبيرة فقط، ولكنه ينهار على المستوى الأساسي للوجود. فالنتائج التجريبية للعالم دون الذري تهدم بشكل مباشر الافتراض القائل بالانفصال الحاد بين الصحيح والخاطئ، إذ تكشف ظاهرة الازدواجية (الموجية-الجسيمية) أنّ الكيان الأساسي لا يتخذ صفة واحدة قطعية، بل يحمل
ارسال الخبر الى: