الوضع الدولي وتزايد احتمالات الفوضى

٣٥ مشاهدة
يتجه النظام الدولي نحو مزيد من الاستقطاب والفوضى توازيا مع تعمق حالة التعددية القطبية التي فرضت نفسها بصورة واضحة خصوصا خلال العشرية الأخيرة ومن علامات ذلك صعود قوى دولية جديدة مثل الصين وبدرجة أقل الهند والبرازيل وإيران وتركيا وعودة قوى تقليدية إلى الساحة بقوة مثل روسيا وهو نظام يشبه من بعض الوجوه نظام ما بين الحربين حيث كانت القوى الأوروبية الكبرى تتصارع فيما بينها من دون وجود قوة أو قوى راجحة قادرة على ضبط الوضع بما مهد الأجواء للحرب العالمية الثانية وما رافقها من مآس على الأوروبيين وعموم البشرية ومثلما كان نظام ما بين الحربين يعاني مما سميت المعضلة الألمانية فهو يعاني اليوم ما يمكن تسميتها المعضلة الروسية وكما أخطأت أوروبا التعامل مع ألمانيا فايمر جمهورية فايمر بالحصار والإنهاك بعد مؤتمر باريس سنة 1919 الذي شرعن عمليا سياسة عزل ألمانيا بما دفعها إلى انتهاج سلوك عدواني فيما بعد فإن إمعان الغرب في محاصرة روسيا وعزلها قد حرك مخالبها وأنيابها للدفاع عما تعتبره أمنها القومي المهدد يبدو هنا أن الأميركان وحلفاءهم الأوروبيين لم يتعلموا الدرس الألماني بتصميمهم اليوم على تجريد روسيا ما بعد الحرب الباردة من كل عناصر قوتها وتحويلها إلى مجرد دولة إقليمية أو ما فوق إقليمية قليلا في أحسن الحالات رغم أن المشهد الدولي ما زال محكوما بأسبقية الولايات المتحدة على غيرها من القوى المنافسة بحكم أنها وريث طبيعي لنظام الهيمنة البريطاني الذي زادت في توسيعه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من خلال بناء الأذرع العسكرية والمالية والتجارية الدولية مثل حلف شمال الأطلسي وصندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية وغيرها وقد ترسخ هذا النظام أكثر بعد نهاية الحرب الباردة التي انتهت بتفكك القطبية الثنائية وهزيمة الاتحاد السوفييتي لصالح ما عرف وقتها بنظام القطبية الواحدة ومع كل هذا السبق الاستراتيجي بات نظام الهيمنة الأميركي الغربي يواجه منافسة جدية اشتدت أكثر بعد الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008 ثم أزمة كورونا التي ما زالت ندوبها وذيولها قائمة ثم الحرب الروسية الأوكرانية ومشكلة تايوان والصراع السياسي والاقتصادي مع الصين كما أن الحرب الإسرائيلية على غزة التي تتجه نحو التوسع بما يشبه الحرب الإقليمية ما زالت تفعل فعلها في الساحتين الإقليمية والدولية عامة والقدر الواضح منها أنها زادت في تعميق مأزق النظام الدولي واهتزاز الثقة في مبادئه ومؤسساته وتشريعاته حيث باتت إسرائيل وبدعم وحماية مطلقين من حليفها الأميركي تتموضع فوق الأمم المتحدة وفوق القوانين والأعراف الدولية فترتكب المجازر الجماعية على مرأى ومسمع من العالم وفي مقدمته القوى الكبرى التي تعتبر نفسها الحارس الأمين للمنظومة الدولية نحن إزاء نظام دولي تعددي ولكن الكفة ما زالت تميل فيه بكل تأكيد لصالح الولايات المتحدة وحلفائها تمثل الصين اليوم بصعودها الاقتصادي الهائل والمتزامن مع تقدم عسكري مطرد أهم قوة منافسة لنظام الهيمنة الأميركي الغربي رغم حرصها على العمل بصمت ومراكمة المكاسب وتجنب الصدام العسكري ما أمكن ثم بدرجة أقل روسيا الجريحة التي تنتهج سياسة التعويل على قوتها العسكرية ومشاغبة الأميركان في أكثر من موقع في العالم خصوصا في أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط وبموازاة ذلك تحاول قوى دولية وإقليمية كثيرة إثبات وجودها في الساحة مثل الهند والبرازيل والمكسيك وإيران وتركيا وجنوب أفريقيا وغيرها والجديد أن القوى الدولية المنافسة للغرب انخرطت في بناء أذرع مالية واقتصادية وحتى عسكرية موازية للهياكل القائمة مثل نظام بريكس ومنظمة شنغهاي والحزام والطريق وآليات التنسيق العسكري الثنائي ومتعدد الأطراف على نحو ما جرى ويجري من مناورات عسكرية مشتركة بين الصين وروسيا وإيران وإن كانت هذه الآليات التعاونية في بدايتها ولم ترتق بعد إلى مستوى تشكيل تهديد جدي للمنظومة الدولية القائمة وفي هذا السياق يقول خبراء في العلاقات الدولية مثل باري بوزان أحد رموز مدرسة كوبنهاغن الواقعية في العلاقات الدولية بنظرية اللاقطبية بدل تعدد الأقطاب أي القول بتعدد مراكز الفعل والتأثير في النظام الدولي من دون وجود قوة ضابطة ومتحكمة بصورة كاملة في المشهد بما يشبه حركة المجرات الشمسية التي ينتظم سيرها بصورة متزامنة ومتوازية وهذا يعني أن التأثير في المنظومة الدولية لم يعد حكرا على القوى العظمى بل بات بمقدور قوى متوسطة الحجم وحتى صغيرة التأثير في اتجاه الأحداث وهذا ما يسمح بالقول إن النظام الدولي في وضعه الراهن بقدر ما يشكل تهديدا لعوامل الاستقرار والانتظام بقدر ما يوفر فرصا للتغيير والتعديل بحكم تراخي القبضة الحديدية للقوى التقليدية الكبرى وتزايد تناقضاتها ليس بسبب ضعف ذاتي من جهتها بل بسبب ظهور منافسات حادة ومهددات غير مسبوقة تفوق إمكاناتها وقدرتها على الضبط تتجه الاستراتيجية الغربية وبصورة متزايدة نحو مواجهة الصين ومنعها من التقدم في الخلاصة نحن إزاء نظام دولي تعددي ولكن الكفة ما زالت تميل فيه بكل تأكيد لصالح الولايات المتحدة وحلفائها بحكم أن هذه القوى هي نفسها من ساهم في تشكل النظام الدولي على امتداد القرون الثلاثة الأخيرة على الأقل في حين يظل باقي الفاعلين يتحركون من موقع المعارضة والمناكفة وعليه سيحتاج الأمر بعض الوقت حتى تتغير الأمور باتجاه نظام دولي أكثر تعبيرا عن هذه التعددية على مستوى الهياكل والمؤسسات وسيحتاج وقتا أطول كي تتغير ثقافة الأحادية القطبية والشعور بالفرادة والتفوق ما هو مؤكد أننا إزاء وضع دولي انتقالي ما بين نظام قديم بصدد التفكك بفعل المنافسة وكثرة أخطاء ومغامرات الأقوياء ونظام دولي جديد بصدد التشكل ولكن صورته وشخوصه يبقيان غير محددين وما بين نظام قديم بصدد الاهتزاز ونظام جديد بصدد الولادة العسيرة تشتد الصراعات على أكثر من محور وتتعمق الاستقطابات الحادة وغالبا ما تقترن مراحل الانتقال هذه بالفوضى والتفلت والإرهاب والثورات والثورات المضادة والانقلابات والانقلابات المضادة خصوصا في المناطق الرخوة من العالم على نحو ما نراه اليوم في أفريقيا جنوب الصحراء وبدرجة أقل في الشرق الأوسط وأميركا الجنوبية وليست موجة الانقلابات العسكرية التي ضربت دول جنوب الصحراء والاتجاه المتزايد نحو الخروج من دائرة النفوذ الفرنسي إلا غيض من فيض هذه التحولات المتراكمة والمتسارعة ثمة أجواء حروب باردة وساخنة تسود في أكثر من موقع من العالم رغم ما يطفو على السطح الخارجي من استقرار ظاهري كما أن هناك أحلافا عسكرية قائمة وأخرى بصدد التشكل وعمليات تطويق عسكري واقتصادي متبادلة بما يقوي من احتمالات توسع المواجهات والحروب في أكثر موقع وأن مرحلة الاستقرار النسبي التي عرفها العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية هي من مخلفات الماضي بل أصبح خطر اندلاع حرب نووية عالمية أمرا قائما وبجدية ولم يعد مجرد هواجس بعيدة المدى وربما ما يكبح جماح هذه الحرب هو الردع النووي المتبادل والكلفة التدميرية الهائلة لحياة البشر وكل مقومات العمران لو جرى الإقدام على هذه الخطوة المغامرة روسيا جريحة ولكنها مصرة على تجاوز مخلفات هزيمة الحرب الباردة مقابل غرب مصمم على استنزافها ومحاصرتها وهزيمتها ما يزيد في تعقيد الوضع الدولي أكثر أن الغرب مصر على تثبيت التوازنات التي استقرت بعد الحرب العالمية الثانية ورسخها أكثر بعد نهاية الحرب الباردة وبين شرق مصر على تعديل التوازنات وفرض نظام تعددية قطبية جديد وما بين النظامين القديم والجديد سيشهد العالم كثيرا من القلاقل والحروب والأزمات والفواجع نحن الآن إزاء روسيا جريحة ولكنها مصرة على تجاوز مخلفات هزيمة الحرب الباردة مقابل غرب مصمم على استنزافها ومحاصرتها وهزيمتها فروسيا مع أوكرانيا على نحو ما كتب بريجنسكي أواسط تسعينات القرن الماضي تكون قوية وطموحة وروسيا من دون أوكرانيا كيان ضعيف ومهيض الجناح والواضح أن روسيا تحرز انتصارات عسكرية جزئية في أوكرانيا ولكنها لن تتمكن من تحقيق نصر بصورة حاسمة في كل الأحوال وهذا يعني عمليا تطويل أمد الحرب وتحول شرق أوروبا إلى خط صراع دموي مفتوح بما يشبه تقسيمات الحرب الباردة من بعض الوجوه والصين هي الأخرى مصممة على ترجمة تقدمها الاقتصادي والتكنولوجي إلى المجال الاستراتيجي والغرب لا يحتمل هذه المطالب والطموحات الصينية مقابل ذلك تتجه الاستراتيجية الغربية وبصورة متزايدة نحو مواجهة الصين ومنعها من التقدم وهناك أجواء حرب بأتم معنى الكلمة في بحري الصين الجنوبي والشرقي مع تشكل أحلاف عسكرية وسياسية موجهة بخلفية مواجهة الصين ومحاصرتها ومن ذلك تحالف الحوار الأمني الرباعي كواد ويضم كلا من الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند والذي تأسس عام 2007 ثم تحالف العيون الخمس بين كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا ويرتبط بعلاقات تنسيقية مع كل من الدنمارك وفرنسا وهولندا والنرويج ويرتكز نشاطه بدرجة أساسية على التعاون الاستخباراتي والمعلوماتي بين الدول الأعضاء وتشكل تحالف ثلاثي سنة 2021 بدفع من بايدن يضم أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة يعرف باسم أوكوس بهدف احتواء الصين في جنوب آسيا وجنوب شرقها في مجالات التسلح والتقنيات الدقيقة كما أن هناك توجها واضحا في الغرب نحو استخدام الهند واليابان والفيليبين بصورة خاصة حزاما دفاعيا متقدما لكبح الصين والحيلولة دون تمددها في المحيط الإقليمي الآسيوي تلقي كل المعطيات أعلاه بظلالها على الوضع الإقليمي والرقعة العربية على وجه الخصوص

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح