الهيمنة اللغوية كيف تصوغ القوة ملامح الكلام
لم تكن الهيمنة- في أي حقبة من حقب التاريخ- مجردَ تفوق عسكري أو اقتصادي، بل كانت- دوماً- سلطة مركّبة تتجاوز السلاح والمال إلى ميادين الرموز والمعاني. واللغةُ، بما تحمله من ذاكرة جماعية وأدوات تفكير، كانت ولا تزال القلب الخفي لهذه السلطة. فمن يقرأ التاريخ العربي يلحظ أن التنافس على السيادة لم يكن سياسياً أو تجارياً فحسب، بل كان لغوياً كذلك. فمع بدايات الإسلام سادت العربية الشمالية على اللهجات الجنوبية، إذ اختار الوحي لهجة قريش، ونزل بها القرآن الكريم، فارتقت إلى معيار موحِّد وأصبحت هي المركز، وأقصت سائر اللهجات إلى الهوامش تقريباً. ولم يتوقف الأمر عند التنزيل، بل امتد إلى سياسات دولة؛ فحين أمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بتعريب الدواوين وسكّ العملة بالعربية، تحولت العربية إلى لغة الدولة والاقتصاد، وتوطدت رمزاً سياسيّاً وحضاريّاً جامعاً.
ولا ريب أن هذا التلازم بين النفوذ السياسي ومركزية اللغة تكرّر في تجارب أخرى عبر التاريخ. فقد أصبحت اللاتينية لغة الكنيسة والإدارة في أوروبا العصور الوسطى لأن الإمبراطورية الرومانية خلّفت إرثها السياسي والديني، بينما صعدت الفرنسية في العصور الحديثة بوصفها لغة الدبلوماسية الرفيعة في ظل قوة فرنسا العسكرية والثقافية. وهكذا نرى أن القوة حين تستقر في مركز تجر وراءها لغة المركز بوصفها وسيلة سيادة ناعمة.
وفي العصر الحديث، أعادت الإنكليزية إنتاج هذه المعادلة على نطاق عالمي بصورة غير مسبوقة. فمنذ توسع الإمبراطورية البريطانية غدت الإنكليزية لغة السياسة والتجارة والإدارة والتعليم، ثم ورثت الولايات المتحدة هذا الإرث وزادت عليه قوة الاقتصاد والتكنولوجيا ووسائل الإعلام، حتى صارت الإنكليزية لغة العلوم والمعرفة الكونية. ولم تعد هيمنة الإنكليزية مجرد نتيجة لانتشارها في المستعمرات، بل تحولت إلى أفق معرفي يحدد معايير النشر الأكاديمي والتواصل العلمي والاقتصادي، ويعيد صياغة لغات العالم الأخرى وفق منطقه الخاص.
إن حركة اللغة في الزمن لم تترك العرب ولسانهم بمنأى عنها. فعلى الرغم من أن العربية عرفت في تاريخها ذروة سيادة مكنت علومها من الانتشار من الأندلس حتى تخوم الصين، إلا أن واقع اليوم يكشف
ارسال الخبر الى: