النظام الدولي والقواعد التي تكتبها القوة
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تتردد في الخطاب السياسي الغربي، ولا سيما الأوروبي والأميركي، عبارة أصبحت أشبه بالشيفرة الأخلاقية للهيمنة المعاصرة: النظام الدولي القائم على القواعد (Rules-Based International Order). تُستحضر هذه العبارة في كل أزمة أو صراع عالمي، وتُرفع في وجه خصوم الغرب، من روسيا والصين إلى الدول المتمرّدة في الجنوب العالمي، لكنها في جوهرها ليست دعوة إلى احترام القانون الدولي أو تعزيز العدالة الكونية، بل أداة خطابية لتكريس نظام أحادي المركز يعرّف القواعد ويحتكر تفسيرها وتطبيقها.
غير أن التكرار الممنهج لهذه العبارة يثير سؤالاً فلسفياً عميقاً حول طبيعة هذه القواعد: من يضعها؟ ومن يملك حق تفسيرها وتطبيقها؟ وهل هي قواعد كونية تمثل روح القانون الدولي، أم منظومة معيارية غربية ذات طابع سلطوي وهيمني؟
يُظهر تحليل الخطاب السياسي الغربي أن عبارة النظام القائم على القواعد لا تحيل إلى منظومة الأمم المتحدة أو القانون الدولي بمعناه المؤسسي، بل إلى نظام موازٍ يضع الغرب في مركزه. فالقواعد هنا ليست تلك التي تم التوافق عليها دولياً، وإنما مجموعة معايير يحددها الغرب باعتباره الممثل الأسمى لـالنظام والقانون والحداثة. إنها قواعد غير مكتوبة بالضرورة، لكنها تُمارس بوصفها معياراً للسلوك المتحضر بالمفهوم الغربي الخالص.
بهذا المعنى، تتحول القواعد إلى أداة لإنتاج الشرعية، لا إلى مبدأ للعدالة. فكما أشار ميشال فوكو، السلطة لا تُمارس فقط عبر العنف، بل عبر إنتاج الخطاب الذي يعرّف ما هو شرعي وما هو خارج النظام. وبذلك يصبح الخطاب الغربي عن النظام الدولي وسيلة لاحتكار تعريف المشروعية، ومن ثم تبرير الإقصاء والعقاب.
لقد نشأ النظام الدولي الحديث في رحم الهيمنة الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، حين كانت القواعد وسيلة لإدارة الإمبراطوريات لا لضبط العلاقات بين الندّ والندّ. فبريطانيا وفرنسا، اللتان أسّستا مؤسسات الشرعية الدولية، لم تُحاسبا يوماً على جرائمهما الاستعمارية في آسيا وأفريقيا، من نهب الموارد إلى الإبادة الجماعية، كما لم تُساءل بريطانيا عن جريمة وعد بلفور الذي منح أرض فلسطين لغير أهلها.
هذه السوابق التاريخية تكشف أن فكرة القواعد لم تكن يوماً
ارسال الخبر الى: