المنام لمحمد ملص أولئك الذين ينامون ويرون حلما واحدا

١٨ مشاهدة
في إبريل نيسان من عام 1948 قبل وقوع النكبة بأيام رسا زورق يافا على شاطئ صور قادما من سواحل فلسطين يافا الذي أبحر فيه أبو أحمد هاربا من الاحتلال كانت رحلة أبي أحمد هذه إرهاصات مرحلة جديدة مشتركة في تاريخ الشعبين اللبناني والفلسطيني لم يمض وقت كثير حتى بات يافا يبحر إلى جانب قوارب صيد لبنانية يحمل فيها الصياد الفلسطيني حصته من سمك البحر الأبيض المتوسط لكن هذه المرة من بحر لبنان وليس فلسطين استقر أبو أحمد أخيرا في صيدا فمناخ المدنية اللبنانية بدا له كمناخ يافا بالزبط على حد تعبيره الذي يرد في شهادته المصورة بفيلم المنام 1987 يؤرخ المخرج السوري محمد ملص في فيلمه الوثائقي 45 دقيقة إلى جانب قصة أبي أحمد عشرات القصص الفلسطينية في لبنان عدا عن أحلام ورؤى وكوابيس أو بتعبير أعم منامات الفلسطينيين في مخيمات اللجوء في لبنان في شريط يسجل جانبا ذاتيا ونفسيا من حياة فلسطينيي الشتات في أحلام الذين تعرضوا جميعهم للتهجير والشتات ونجا معظمهم من مذابح تذوب الأنا بالجماعة ويتفاعل صاحب المنام مع الفضاء الجغرافي فيصبح الفرار والدماء والسلاح مفردات تكاد تكون مشتركة لدى الحالمين الذين قابلهم ملص يضع المخرج بين أيدينا وثيقة سجل فيها بعضا من يومياته في كتاب ملحق بالفيلم صدر عن دار الآداب بعنوان المنام مفكرة فيلم يتناول مرحلتي الاستطلاع والتصوير إضافة إلى بعض الظروف التي عاش فيها فريق العمل في لبنان في مطلع ثمانينيات القرن الماضي حمل الكتاب إلى جانب الفيلم مادة فريدة من الذاكرة الجمعية الفلسطينية سبر أغوارها المخرج الذي ولد في مدينة القنيطرة السورية عام 1945 وعاش هو الآخر رحلة النزوح عن أرضه مع عائلته بعد احتلال الجولان إبان نكسة حزيران 1967 ومع أن الفيلم هدف إلى التعبير عن الحالة الفلسطينية للفلسطيني وفقا لملص لكن عناصر أخرى تسللت إلى المنام لتكشف من خلال أحلام الفلسطينيين درجة التشابك بين مصائر أبطال الفيلم الحالمين ومضيفيهم في لبنان وتمتد مناماتهم إلى أن تغطي رقعة واسعة من الشتات الفلسطيني من لبنان إلى سورية والأردن وغيرها من الدول العربية والأوروبية ربما تكون العقبة الأولى والأهم أمام مشروع لسبر أغوار لاوعي الفلسطينيين هو شعورهم بأنهم بعد أن نزحوا من أرضهم أصبحوا الآن ضيوفا في بلاد جديدة ولذلك لا يتوانون عن ذكر أراضيهم وبيوتهم في فلسطين كما لو أنهم يؤكدون لمن حولهم أن لهم خلف الحدود أرضا وبيوتا وأهلا تروي إحدى النساء في المخيم حلمها وكيف عادت إلى فلسطين ودخلت حارة المجادلة في عكا ولكنها اصطحبت معها في رحلة العودة نسوة لبنانيات فقط ليرين كيف هي فلسطين فالزوار الكثر الذين قدموا إلى المخيمات زادوا شعور سكانه بالعزلة ربما أشعرتهم الكاميرات التي كثيرا ما تثبت أمام وجوههم أنهم مادة للاستعطاف أو الفرجة لذلك استقبلت أم نمر فريق التصوير القادم من دمشق بشيء من النزق وقالت بلا مقدمات اسمي ام نمر بنريد إنكو تعرضوا وتحكوا بالفلومة تبعكم قديش نحنا مضطهدين وإنه ما حدا عم بيفكر فينا بالخير نحنا ما بنحب يشوفونا الأجانب حتى لا يشمتوا فينا فهؤلاء الضيوف الثقال يأتون أيضا في الأحلام فيروي أبو تركي كيف زاره الرئيس اللبناني السابق كميل شمعون ومد يده ليصافح أبو تركي الذي ارتبك بسبب يده المشحبرة فكان قبل ظهور الضيف ينظف موقد البريموس بينما يقف أمامه شمعون بلباسه الأبيض النظيف مع أن الفيلم عرض حصريا شخصيات فلسطينية لكن فصلها عن الفضاء الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي اللبناني المحيط لم يكن بالأمر الهين بل إن حالة فريدة من التمازج فرضت نفسها فتسللت أصوات الشوارع اللبنانية المحيطة إلى أزقة المخيم الضيقة ويمكن سماعها في شريط المنام الصوتي وكذلك نستكشف عبر مشهد بانورامي بعد أن ثبتت الكاميرا على سبطانة مضاد جوي سماء المخيم وبيوته وهناك في الأفق بيروت حاضرة وتفرض وجودها على السياق السينمائي للفيلم فالفضاء الجغرافي عكس إلى حد كبير ملاحظات ملص وهذا ما دفعه من بداية العمل أن يصور التراكب المعماري ويستعمل الإيهام لبناء الحيز المكاني في المخيم فبيوت شاتيلا وأزقتها بدت له متراكبة يصعب الفصل بينها إذ تظهر كما لو أنها فضاء واحد متصل تتلامس فيها أنتينات التلفزيون ويصبح المخيم بيتا فلسطينيا واحدا امتد على أرض لسعد الدين باشا شاتيلا جنوب بيروت وتحول في أواخر 1982 ليكون مسرحا لواحدة من أبشع المجازر في التاريخ الفلسطيني وظل بعدها مصير عدد من شخصيات الفيلم مجهولا إحساس الغربة عن المكان ظل حاضرا بلا شك لكن العمال الفلسطينيين اشتغلوا إلى جانب عمال لبنانيين في معامل غندور وغيرها وعاشوا معا أيام الحرب السوداء كان الفلسطينيون طرفا في حرب أهلية وتسللت أشباحها إلى أحلامهم تماما مثل غيرهم من اللبنانيين وعلى ذكر الكابوس اللبناني الفلسطيني المشترك رأى عمر في منامه نفسه تائها في بيروت الشرقية وهناك يوقفه حاجز للكتائب بين عناصره كان بشير جميل برفقة القوات يهدد الفلسطيني التائه بأشد العقاب يهرب الشاب راكضا في زقاق فرعي من دون أن يستطيع الخروج من متاهات الشرقية الكابوس نفسه تسلل إلى نوم خائفين كثيرين لم تشفع لهم جنسياتهم اللبنانية أو الفلسطينية العدو واحد والجغرافيا متشابهة والقاتل ذاته والمذبحة هي عينها أما الضحية فهو فلسطيني على أرض لبنانية أو لبناني في بلاده والوطن هو الوطن سواء مخيم في لبنان أو خارج المخيم وطن لا يوحي بالاغتراب هكذا شعر سعيد ابن المخيم حين رأى في حلمه أنه يمشي في شوارع بيروت يقول مش عارف ليش الشوارع قديمة والأبنية عتيقة ومدري ليش بتحس حالك كأنك بتعرفها وإنك مش غريب فيها المخيم القابع على أرض خارج الحدود الفلسطينية هو فلسطين في أحلام أبناء الشتات إنه التعبير الفيزيائي عن وجودهم ولذلك تبقى أحلام العودة ناقصة ويبدو المخيم الذي جمع أبناء المدن الفلسطينية كلها كأنه وطن مصغر فعند العودة سيذهب كل إلى مدينته ويتلاشى هذا الوطن هذا بحد ذاته كابوس عند فيصل الذي أعاد المخيم له تشكيل كلمة وطن يلي من حيفا رجع لحيفا ويلي من يافا رجع ليافا وظل فيصل وحيدا في حلمه هو في الواقع لديه أمنية طفولية تلخص علاقته بالوطن ألا وهي أن يسكن كل من كان في المخيم في مكان واحد في فلسطين أن يبنوا مدينة أو قرية جديدة أو حتى مخيما تماما مثل شاتيلا الذي عاش فيه يكثف محمد ملص في كتابه المنام مفكرة فيلم بعضا من الدلالات التي فسرت أمامه الخاروف رزقة والطير جمع للشمل والزيتون جنة والبحر حيرة والخضار أمل والفواكه بغير موسمها خسارة والسيارة نعش والحذاء عريس والمي إذا عكرة مش منيحة والموت حياة واللبن كفن والذهب ضيق والبوابة طائرة إسرائيلية مفردات الحياة والموت الأمل والخسارة الضياع والاستقرار حاضرة في أحلام الفلسطينيين وتفسيراتها والدلالات الشعبية هذه عكست خصوصية أصحابها وتجاربهم فالأحداث تتكرر والطائرات الإسرائيلية تقصف اللبنانيين كما تقصف غيرهم من الفلسطينيين وخيالات جنود الاحتلال ليست حكرا على أحلام الفلسطينيين في مفكرة الفيلم يدون الكاتب ملاحظته الشعب في واد المنام والتعبير السياسي الراهن الممثل له في واد آخر أحلام اليقظة لكن المنامات تبدو كما لو أنها حالة تصالح فريدة بين اللاوعي ورقيبه فالعودة والمقاومة والتوق إلى التحرير والنصر جزء من وعي الفلسطينيين وهي المدخل الأساس لتفسير أفعالهم وأحلامهم ربما بدا الغرباء الذين دخلوا المخيم مع معدات تصوير استعاروها من التلفزيون السوري منفصلين عن الواقع يهتمون بأحلام كل من يحدثهم أو يرافقهم في المخيم لكن شعورا بالألفة سرعان ما سيطر على العلاقة بين فريق عمل الفيلم وسكان المخيمات في لبنان بل باتوا ينادونهم من بعيد ليروا أحلامهم الجديدة ولم يكن من الواضح حتى تلك اللحظة أن الأشهر والسنوات القادمة ستكون بتلك القسوة فالحرب الأهلية المستمرة والاجتياح ومجازر صبرا وشاتيلا تركت ثقلا كبيرا على الفيلم وأخرت إنجازه لم يستطع المنام تجنب كل ذلك حتى بالرغم من موضوعه الأساسي الفلسطينيون يحلمون باستشهادهم ويحملون نعوشهم في التشييع مع أصدقائهم هم أحياء رغم موتهم وهذا تحديدا ما نراه في الفيلم الحياة في المخيم قاسية وكذلك كانت في لبنان وهي إحدى قواسم مشتركة كثيرة بين الشعبين تظهر اليوم أمامنا بوضوح نضال في الفيلم يقول لفريق التصوير شو بدكن أحكيلكن شو بدك أقلك أنا ما بعرف الناس شو بدا مني إنت سألني وأنا مستعد أجاوبك

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح