المكتبات في مواجهة الرقابة
عشتُ في فرنسا طويلاً، وما زلت أذكر بدقّة المكتبات المستقلّة، أحد أكثر الأمكنة حميميةً وإدهاشاً. إليها يمكن الدخول دونما استئذان، وعلى رفوفها وطاولاتها يمكن معاينة ما هو معروض كلّه، فالكتب موجودة هنا لكي تحاورها، تلمسها، تستكشفها، من دون أن تكون مجبَراً على شرائها. إنها مساحة يشعر فيها المرء بأنّه غير مُراقَب، وأن عقله يتنفّس بحرية، جائلاً بين الأغلفة الكثيرة والعناوين المتنوّعة التي تعطي، بمجرّد المرور عليها، فكرةً عن آخر ما نُشر وأهمّه، محلّياً وعالمياً. أجل، ليست المكتبات المستقلّة في فرنسا محالَّ تجارية، بل فضاءات عامة بكل معنى الكلمة، للاحتفاء بالثقافة، بوصفها علاقة معرفية بين البشر، في بلدٍ يبني جزءاً كبيراً من هويته على الكتاب وعلى النقاش الحرّ. إنها أشبه بمختبرات مفتوحة: مقهى بلا قهوة، وجامعة بلا امتحانات، ومنتدى سياسي بلا شعار.
إلا أنّ هذه الفضاءات بدأت تتعرّض للتهديد خلال العامَيْن الأخيرَيْن؛ فيتعرّض مكتبيّون لتهديدات، وتُحطَّم واجهاتٌ ليلاً، وتُلغى ندواتٌ خوفاً أو تفادياً للمشاكل. وحين تُجبَر مكتبة في فرنسا على ممارسة الرقابة الذاتية، فهذا يعني أن شيئاً عميقاً قد اختلّ في علاقة هذا المجتمع بنفسه؛ إذ يُعتدى على حقّ الناس في فهم العالم من زوايا متعدّدة ومتباينة، مع محاولة إفراغ الشارع من النقاش، والمدينة من التفكير، والإنسان من حريته الداخلية.
الأمثلة كثيرة وعديدة، وكلّها تذهب في اتجاه قمع حرية التعبير، أو قمع موقفٍ سياسي معارض، مخالف، لا يتّسق والموقف السياسي السائد الذي ينحو أكثر فأكثر إلى الرأي الأحادي، كراهية الآخر وشيطنته. مكتبة مصر الصغيرة في الدائرة الثانية رُشِقت بالأسيد، وكُتبت على واجهتها شعاراتٌ معادية، بينما كانت تستعدّ لاستقبال نقاش مع باحثةٍ في حقوق الإنسان الدولية حول فلسطين. ومكتبة الفكر الحرّ في الدائرة الخامسة تعرّضت للهجوم لأنها نقلت، بالمتابعة أو بإعادة البث، ندوةَ فلسطين فلسطين وأوروبا: ثقل الماضي والديناميات المعاصرة التي ألغت كوليج دو فرانس استضافتها، ما أثار فضيحةً حقيقيةً في الأوساط الأكاديمية والثقافية. أمثلة أخرى كثيرة لم تخرج ربّما إلى العلن، وهي جزء من موجةٍ أكبر طاولت عشرات المكتبات في مدن
ارسال الخبر الى: