المرأة التي كانت وراء المهدي بن بركة

٤٢ مشاهدة
بعد أكثر من نصف قرن على تغييب زوجها المهدي بن بركة في باريس 1965 أسلمت السيدة غيثة بناني الروح لبارئها 10 7 2024 من دون أن تقف على ظروف تصفية زوجها التي طبقت أخباره الآفاق وملأت الدنيا ضجيجا بالقيل والقال وكثرة الاحتمالات التي لم تزد المتابعين المغاربة والعرب والأجانب سوى غموض يتكدس فوق غموض وإن كانت الحقيقة ظلت تائهة بين فرنسا والمغرب والولايات المتحدة وكيان الاحتلال الصهيوني وهي الأطراف الرئيسية التي كانت لها مصلحة كبيرة في التخلص من هذه الشخصية العربية والعالمية الفذة التي كان لها من القوة والإشعاع والكاريزما ما جعلها تجمع حولها جل دول العالم الثالث وذلك في أفق تشكيل قطب متراص لمواجهة الإمبريالية الغربية التي كانت وما زالت تروم إخضاع العالم كله لجشعها اللامحدود ما زلت أذكر في بداية الألفية الثالثة تلك الحماسة منقطعة النظير التي جيشت مشاعر آلاف من المغاربة حين حجوا إلى مطار الرباط ـ سلا لاستقبال بشير بن المهدي بن بركة وأسرته العائدين من فرنسا إلى الوطن الأم بعد اغتراب قسري دام حوالي ثلث قرن قضوه مرتحلين بين القاهرة والجزائر وباريس كان يوما مشهودا صدحت فيه الحناجر بمختلف الأهازيج والشعارات وثملت فيه القلوب طربا من شدة التفاؤل والاستبشار معتقدة بسذاجة مدهشة أن مرحلة عصيبة قد ولت بغير رجعة وأن أخرى مغايرة قد حلت مع هذا الاستقبال الجماهيري العظيم المبشر أخيرا بحلول طلائع الحرية والكرامة والعدالة والمساواة كيف لا وواحد من أقرب أصدقاء الزعيم بن بركة وهو عبد الرحمن اليوسفي المحكوم بالإعدام في عهد الملك الحسن الثاني أصبح وزيرا أول في رأس حكومة اشتراكية ستعمل من بين ما ستعمل بحسب ما كان ينتظر منها على رفع اللبس عن ذلك الاختطاف الهتشكوكي على طريقة المخرج ألفريد هتشكوك الذي دوخ العقول وحير العالم ونحن ننتظر بتشكيلتنا الرسمية مع المنتظرين المتحمسين أن تحط الطائرة على مدرج المطار وفينا من احدودب ظهره وفينا من غارت عيناه وبرزت عظام وجهه وفينا من كان يطقطق كطائر اللقلق بأسنانه ويمنعها من السقوط وهو لم يستأنس بعد بطاقمه المعبأ عند ميكانيكي الأسنان حدثت جلبة كبيرة بعدما انبرى مسؤول أمني رفيع المستوى لزجر بعض المناضلين لحملهم في ما اعتقدت وقتئذ على عدم احتلال أماكن بعينها فثارت ثائرة بعض الحقوقيين وسرت عدوى غضبهم كالنار في الهشيم في جمهرة من الحاضرين ولولا أن الشرطي اشتم رائحة الغضب المتصاعد فسارع إلى إطلاق ساقيه للريح واحتمى بالدخول إلى أحد مكاتب الإدارة لكان قد عرف سوء المنقلب حقيقة اختفاء بن بركة ظلت تائهة بين فرنسا والمغرب والولايات المتحدة والاحتلال الصهيوني الأطراف التي كانت لها مصلحة في التخلص منه وهنا علق أحد أصدقائنا على الحدث بسخرية لقد أخطأ التقدير هذا وأولئك فالأول تصرف تصرفه العادي المجبول على القمع من دون أن يدرك أن الأمور قد تغيرت شيئا ما ولو مؤقتا والآخرون توهموا أن الديمقراطية هبطت بالمظلة من السماء وغاب عنهم أن سياسة المخزن الذي يمثل الدولة العميقة في المغرب هي سياسة القصبة تنحني عند اشتداد هبوب الرياح ثم تعود إلى وضعها الطبيعي عند سكون العاصفة وقد بينت الأحداث لاحقا صدق تحليل صديقنا وإن لم يكن سوى عسكري بسيط لم يدرس لا علوما سياسية ولا تاريخ الثورات وفي خضم انتظار وصول عائلة الشهيد بن بركة انتقلت ذاكرتي لتسترجع حدثا من الطفولة البعيدة إذ كانت قبيلتنا بني زروال الموجودة في شمال غرب مدينة فاس عند الحدود المرسومة بين الاستعمارين الفرنسي والإسباني التي عشت بين جبالها ومراتعها الخضراء مشتعلة بالأحداث المتلاحقة ومسرحا في سنة 1955 لسلسلة من عمليات فدائية متكررة كانت تقوم بها فصائل من جيش التحرير المغربي ضد إمدادات قوافل اللفيف الأجنبي التي كانت تأتي من مدينة فاس وتتوجه إلى الثكنة العسكرية الكبيرة المنتشرة فوق جبل راس راس حيث كانت السلطات الفرنسية تراقب قرية غفساي وما جاورها من غابات ومرتفعات وهضاب مترامية إلى ما وراء جبل ودكة وكنا نحن تلامذة المدرسة نعيش على وقع تأثير دروس الوطنية التي كان يلهب بها حماستنا أستاذنا الحاج الحسن إمريزق كما كنا قد تعودنا سماع طلقات الرصاص وهي تلعلع يوميا في ساحة الرماية الموجودة بمكان يسمى برويز حيث كانت الوحدات الفرنسية تتدرب فيه على امتداد ساعات النهار لكن خيالنا الصغير كان يزداد اشتعالا وقلوبنا تتأجج وطنية كلما سمعنا عن كمائن تنصب هنا وهناك للعدو وقتها كنا نتمنى لو كنا كبارا حتى تتسنى لنا فرصة المشاركة مع المجاهدين في دحر المستعمر الغاشم وكم كنا نحترق كمدا لما كنا نرى رأي العين الطائرات الفرنسية وهي تستهدف معاقل وحدات جيش التحرير المنتشرة في الغابات المجاورة بالقصف الهمجي الذي يحرق الأخضر واليابس لا سيما بعدما اشتد أوار سعارها وهي تستشعر حتمية الرحيل ولما استقرت الأمور نسبيا بعدما رحل القسط الأكبر من الفرنسيين عن المنطقة قدم الزعيم المهدي بن بركة إلى مدينة غفساي للقاء بعض قادة جيش التحرير المغربي هناك وتشرف باستضافته الحسن إمريزق الذي ساهم بدور فعال في إقناع عشرات من أفراد الكوم المغربي بالالتحاق بالثوار بعدما كانوا يقاتلون تحت الراية الفرنسية وما زالت جلبة سكان غفساي ونواحيها التي حجت للقاء الزعيم بن بركة حاضرة أمام ناظري وكأنها أمس وتلاحقت الأحداث السياسية بسلبياتها وإيجابياتها وأصبح اسم بن بركة اسما عالميا ذا شهرة تطبق الآفاق ويستقبل استقبال زعماء الدول في العواصم التي زارها عربيا وعالميا لكن سرعان ما جاء حادث اختطافه بغتة كما يختطف العندليب من فوق غصنه وهو يصدح بصوت رخيم مبشرا طيور الغابة بفجر جديد وما زال اختطافه سرا مغلقا لم يقدر أحد على فك طلاسمه إذ عاشت الراحلة غيثة بناني التي كانت سنده ونصيره على حلم الوصول إلى حقيقة اختطافه واسترجاع جثمانه لكي يصبح للرجل قبر ترتاح فيه روحه لكن الحلم لم يتحقق بعد عاشت الراحلة بناني التي كانت سند بن بركة ونصيره حلم الوصول إلى حقيقة اختطافه واسترجاع جثمانه لكن الحلم لم يتحقق وقبل سنين قليلة رافقت صديقين لزيارة سيدة تسكن في حي الليمون بالرباط فدخلنا إلى فيلا متوسطة من تلك الفيلات العادية التي لا يميزها شيء سوى أنها نظيفة وبسيطة وجدنا في استقبالنا سيدة قد تكون بحسب ما بدا لي على عتبة العقد الثامن تميل إلى القصر أساريرها مستبشرة حية الطلعة أنيقة اللباس وخفيفة الروح بادرتني بالتحية والسلام علي بحرارة وكأنها تعرفني من زمان وبادرتني قائلة أهلا وسهلا تفضل تفضل لقد قرأت مجموعتك القصصية محنة الفراغ الدار البيضاء 2012 ولم أكن أتوقع أن يتخللها كثير من السخرية والهزل شكرتها وأنا لا أكاد أصدق أن مثلها قد يقرأ لكاتب هاو مثلي وبعد أن أكملنا واجب التحية والسلام على أختين لها كانتا معها تأخذان قسطا من شمس الأصيل اغتنمت فرصة وسألت صديقي الذي كان معروفا بتدبير المقالب من تكون هذه السيدة الطيبة فأطلق ضحكة عالية وقال لي متهكما مغمور يسأل عن مشهور وتابع لقد أحجمت عمدا عن تعريفك بها مسبقا حتى تكون مفاجأتك أكبر إنها السيدة غيثة بناني زوجة الشهيد المهدي بن بركة ورفيقة دربه الطويل لتنطلق ذاكرتي في ربط الماضي بالحاضر مستحضرا الصورة الملهمة للزعيم بن بركة التي ما زال طيب ذكراها عالقا في أذهان الأجيال المتعاقبة في المغرب والوطن العربي وعبر العالم رغم رحيلها المفجع منذ زمن بعيد كم أسعدني ذلك اللقاء الذي لم أعرف كيف مرت ساعاته حديثا ونقاشا وضحكا تعرفت فيه عن قرب إلى سيدة كانت وراء رجل عظيم سمعت عنه ولم أره لكن أثره بقي خالدا في مقابل نسيان أثر جلاديه رحمها الله برحمته الواسعة وجعل مثواها ديار الخالدين

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح