الكاتب الذي يعيد كتابة الأدب
ذات يوم، قرّر كاتب فرنسي يدعى بيار مينار – وهو كاتب افتراضي ابتكره بورخيس - أن يكتب فصولاً من كتاب دون كيخوته، ليس من خلال صياغته ثانيةً أو تقليده، بل من أجل أن يعيش التجربة الفكرية التي تجعل نصّه يتطابق مع النصّ الأصلي لِثيربانتس، ويكون في الوقت نفسه مختلفاً تماماً، لأنّ مؤلّفه ينتمي إلى القرن العشرين، أي أنه يأتي من زمن آخر وسياق آخر. وهذا ما يختصره بورخيس بقوله: إنّ نصّ ثيربانتس هو مغامرة فروسيّة قديمة، أما نصّ مينار فهو تأمُّل في عبث التاريخ والكتابة.
طالعتني هذه القصّة في كتاب خيالات (Ficciones)، وهو الكتاب الأول الذي قرأتُه لبورخيس باللغة الإسبانية ووجدتُ فيه أكواناً متخيَّلة تُزاوج بين الحقيقة والوهم، وهي تعبّر عن نظرة بورخيس العميقة إلى الاقتباس والاستشهاد، وتختصر رؤيته للقراءة والكتابة.
وهذا ما تدعمه نصوص كثيرة أُخرى في نتاجه، ومنها حديقة المسالك المتشعّبة، ثلاث نسخ من يهوذا، الاقتراب من المعتصم، مكتبة بابل، وقد يكون هذا النصّ الأخير هو الأبرز في هذا المجال، وأكثر ما يجسّد فكرة إعادة الكتابة، فتصبح مكتبة بابل صورة مجازية للأدب ذاته.
تحدّث عن موسوعات وكتب لا وجود لها، وعن مؤلّفين وهميين
بورخيس يتخيّل كوناً هو مكتبة لا نهائية، تتألّف من غرف سداسيّة الشكل، تمتدّ إلى ما لا نهاية في كلّ الاتجاهات، وتحتوي على كلّ ما يمكن أن يُكتَب: كلّ كتاب موجود، وكلّ كتاب محتمل، وكل نسخة محرَّفة أو مشوّهة من كلّ كتاب، وكلّ كتاب يتضمّن نفيه، وتأويله، وشروحه التي لم تُكتب بعد.
في ختام هذه القصّة، يقول بورخيس إنّ المكتبة ستبقى، وفي سياق فلسفته الأدبيّة يمكن أن نضيف: أمّا الإنسان فمجرّد حادث عابر في نصوصها، وليس إلاّ أداة لكتابة ما كان مكتوباً منذ الأزل.
بهذا المعنى، المكتبة هي استعارة للوجود نفسه. ليفخَر الآخرون بالصفحات التي كتبوها، أمّا أنا فأفخر بتلك التي قرأتُها، يقول بورخيس. القراءة، هنا، هي أيضاً فعل إبداع. القراءة والكتابة توأمان. ولذلك كان دائماً يتخيّل الفردوس على شكلِ مكتبة. فالمكتبة، في تصوّره، ليست
ارسال الخبر الى: