في مشهد يبدو متناقضا مع الواقع الاقتصادي المتعثر شهدت القاهرة خلال العقدين الأخيرين طفرة في أعداد قاعات العرض الفني هذا الانتشار اللافت في زمن الركود الاقتصادي يثير تساؤلات جدية حول صمود سوق الفن أمام العاصفة فلماذا يقتني المصريون الأعمال الفنية وهل يعكس هذا الانتشار الواسع لصالات العرض في مصر سوقا فنيا رائجا ومستقرا هل هو تعبير عن شغف حقيقي بالفن أم أنه مجرد سباق نحو الوجاهة الاجتماعية أم أن هناك دوافع أخرى خفية لا نلتفت إليها في كثير من الأحيان تبدأ رحلة الاقتناء بصدفة عابرة لوحة تجذب انتباه أحدهم في إحدى قاعات العرض فيشتريها لتزيين منزله الجديد لا يلبث هذا الفعل البسيط أن يتحول إلى ولع حقيقي ولا يعد هذا النمط سلوكا فرديا استثنائيا إذ تشير دراسة صادرة عن جمعية اقتصاديات الفن ACEI إلى أن نسبة كبيرة من جامعي الأعمال الفنية حول العالم يبدأون مجموعاتهم بدافع التزيين قبل أن يتحول الأمر مع الوقت إلى شغف واهتمام شخصي يتعمق تدريجيا حتى يصبح من الصعب التخلي عنه لكن في المقابل هناك شريحة أخرى من جامعي الأعمال الفنية يلجأون إلى هذا السلوك من باب الوجاهة الاجتماعية ففي مجتمع يزداد فيه التفاوت الطبقي يصبح الفن أحيانا وسيلة للتمييز التمييز هنا لا يعني الجانب الإيجابي المرتبط بالذوق والفن والثقافة لكنه التمييز الاجتماعي أو ما يعرف برأس المال الثقافي Cultural Capital عند عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو 1930 2002 لا يقتنى العمل بسبب جماليته بل لأنه موقع من فنان مشهور هنا لا يتم اقتناء العمل الفني بسبب مقوماته الجمالية بل لأنه موقع من فنان مشهور أو لأنه معروض في غاليري فلان أو لأنه غالي الثمن الاقتناء في هذه الحالة يتحول إلى أداة لتعزيز التمييز الطبقي فاقتناء لوحة لفنان معروف أو عمل نادر يصبح وسيلة لإثبات الانتماء إلى النخبة وهنا يتحول الغاليري إلى واجهة اجتماعية حيث تقاس قيمة العمل بمدى قدرته على إثارة إعجاب الضيوف لا بمضمونه الفني وقيمته الجمالية في القاهرة لا تخطئ العين وجود قاعات عرض معينة تركز على جمهور محدد جدا جمهور لا يقبل باقتناء العمل الفني لأنه يحبه بل لأنه يجب أن يقتنيه هذه القاعات تختار فنانيها على أساس شهرتهم لا على أساس التجريب أو القيمة الفنية البحتة أو اللوحة التي يرسمونها وبعيدا عن الجمال والوجاهة هناك سبب ثالث لا يمكن التغاضي عنه وهو الاستثمار نعم هناك من يتعامل مع العمل الفني كسهم في بورصة من نوع خاص فاللوحة التي تشترى اليوم بعشرة آلاف دولار قد تباع بعد خمس سنوات بـ100 ألف دولار لكن هذا النوع الأخير من الاقتناء يواجه إشكالية كبيرة في مصر وهي غياب الشفافية وعدم وجود منظومة حقيقية لتقييم الأعمال وتوثيقها وفي ظل غياب نقاد محترفين أو دليل أسعار واضح قد يصبح الاستثمار مغامرة شخصية تظل العلاقة بين الفنان والغاليري والمقتني محاطة بدرجات عالية من التعقيد فكثير من الفنانين الشباب يواجهون استغلالا مباشرا حيث تباع أعمالهم بأسعار لا تعكس قيمتها الفنية الحقيقية لا لشيء سوى افتقادهم للحماية القانونية أو عقود تضمن لهم حقوقهم وعلى الجانب الآخر يعبر بعض المقتنين عن قلقهم من غياب الشفافية خاصة حين يتعلق الأمر بأعمال فنية لفنانين راحلين حيث يصعب أحيانا التحقق من مصدر العمل أو الحصول على شهادة توثيق رسمية هذه الثغرات تخلق مساحة رمادية تضعف ثقة المشترين وتربك حركة السوق وتجعل من سوق الفن المصري كيانا هشا إذا ما قورن بنظيره في الأسواق العالمية الأكثر تنظيما واحترافية نصل هنا إلى السؤال الجوهري هل توجد في مصر ثقافة اقتناء فنية مستقرة وهل أصبح اقتناء الأعمال الفنية جزءا من الوعي المجتمعي العام عدم وجود منظومة حقيقية لتقييم الأعمال الفنية وتوثيقها الواقع يشير إلى أننا لا نزال بعيدين عن هذه المرحلة ففي المجتمعات التي تتمتع بتقاليد فنية راسخة يبدأ الاقتناء من سن مبكرة عبر معارض المدارس وزيارات المتاحف المفتوحة ووجود سوق نشط للأعمال الصغيرة والمتوسطة التي تتاح لعامة الناس أما في مصر وغيرها من البلدان العربية فلا يزال الاقتناء الفني محصورا بين ثلاث دوائر الثراء أو المصادفة أو شغف فردي لدى قلة من المتذوقين لا يوجد بعد ذلك المفهوم الجماهيري الذي يرى في الفن جزءا طبيعيا من حياة الأسرة اليومية أو مكونا من مكونات الثقافة المنزلية ما زلنا نتعامل مع الفن كشيء نخبوي لا كشريك في تكوين الذوق العام أو في صياغة الوعي الجمالي لدى الأفراد تبقى قضية تطور سوق الفن في مصر رهنا بعدة عوامل مترابطة أبرزها دور التعليم في غرس الوعي الفني منذ الصغر وضرورة وجود نقاد متخصصين قادرين على صياغة ذائقة فنية رصينة وهذا بالطبع دون إغفال الدور المحوري للدولة في تنظيم هذا السوق ودعمه إن الفن المصري يقف اليوم عند مفترق طرق بين كونه تعبيرا أصيلا عن روح المجتمع أو مجرد سلعة نخبوية تكرس الفجوات الطبقية ولعل تحويل الاقتناء الفني من كونه ممارسة نخبوية إلى ثقافة جماعية راسخة يتطلب بناء منظومة متكاملة هذه المنظومة يجب أن تقوم على شفافية السوق وتطوير التعليم الفني وإرساء توازن دقيق بين الاعتبارات التجارية والقيمة الجوهرية للأعمال الفنية فكما أن غياب هذه العناصر يحول دون نضوج السوق فإن تحقيقها سيطلق بلا شك الطاقات الإبداعية الكامنة إن مستقبل الفن في مصر رغم كل التحديات يبقى واعدا بشرط أن نتعامل معه ليس كمجرد سوق استثماري أو وسيلة للتمييز الاجتماعي بل كرافد أساسي للهوية والتنمية فالفن الجيد هو ذلك القادر على الجمع بين الأصالة والحداثة بين القيمة المادية والعمق الإبداعي بين الذائقة الفردية والوعي الجمعي كاتبة من مصر