الفقر في بر مصر
في روايته الشهيرة الحرب في بر مصر يروي الكاتب المصري يوسف القعيد حكاية العمدة في بداية العهد الساداتي، رجل صادرت الدولة أراضي عائلته ذات الأصول التركية، لكنه استعادها في العهد الجديد، لديه من الزوجات ثلاث، ويرى الخلق في بر مصر نوعين أولاد الناس (الأغنياء) وأولاد الكلاب (الفقراء). لكن العمدة، ممثل الدولة، يضن بأولاده جميعا على شرف الجندية فيما تخوض البلاد حربا ضروسا. وحين يُستدعى ابنه الأصغر من زوجته الشابة إلى الجيش لأداء الخدمة العسكرية، لا يجد وسيلة لحمايته من شرف الجندية، سوى التزوير في الأوراق الرسمية وترحيل الابن الوحيد للخفير الفقير المتقاعد إلى الجيش بصفته ابن العمدة. وفي ساحة الفداء يموت ابن الفقير شهيدا حاملا اسم عائلة العمدة، فيحوز الثري الإقطاعي وعائلته ثمن ضريبة الدم التي دفعها ابن الفقراء.
هكذا هم فقراء مصر على مر العصور، عليهم دائما شد الحزام والتقشف ودفع الثمن في انتظار الأمل، ومهما تقشفوا فهم متهمون من أعلى المناصب بالتبذير والكسل. فعلى مدى السنوات العشر الماضية ومنذ بدأت الحكومة برنامج الإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد الدولي في أكتوبر 2016، ازداد الفقراء في ربوع مصر فقرا وتآكلت الطبقة الوسطى لينزلق كثيرون منها إلى هوة الفقر. فبرامج الصندوق، المصممة للمدى القصير (شهور أو سنوات وليس عقدا كما في الحالة المصرية) لا تعنى بضمان الدور الاجتماعي للدولة أو لخلق الوظائف، لكنها مصممة لتبييض وجه الحكومات وإثبات جدارتها الائتمانية، باقتصاد كلي ينسجم مع متطلبات الاستدانة وسداد القروض، وثبات العملة. لذلك تتفق غالبية الدارسات الأكاديمية التي بحثت تداعيات برامج الصندوق في بلدان مختلفة، على تأثيرها السلبي على قطاعات الصحة والعمل والتعليم، والإسكان، وهي الأمور التي تعني الفقراء والفئات الهشة بالدرجة الأولى.
لكنني أعود إلى الرواية والعمدة الذي يحوز كل شيء، الثراء والسلطة والفخر، دون أن يحصل من يدفع الثمن الحقيقي على شيء في المقابل ولو حتى إشادة. هؤلاء الفقراء المجهولون تحدث عنهم رئيس الحكومة مصطفى مدبولي مؤخرا حين أقر بأنه لا يعرف نسبتهم، لكنه رجح أنها زادت قليلا
ارسال الخبر الى: