على مدار قرن كامل مثل التغني باسم الحكام إشكالا لدى قطاعات واسعة من النقاد ومن الجمهور مسارات النقد الفني نظرت دوما إلى الغناء السلطوي بمناظير أخلاقية أو مبادئية لا هم لها إلا إصدار أحكام الإدانة وإطلاق أوصاف النفاق والتمكين للاستبداد السياسي واستخدام الفن لتبرير جرائم الأنظمة ضد شعوبها واعتبار كبار المطربين والمطربات شركاء للحكام في قمع الجماهير وسلب حريتها هذا النظر الضيق منع كل محاولات الفهم الهادئ لسياقات الغناء للسلطة ثم منع النقد الفني المحض لكثير من الأعمال الغنائية التي جاء بعضها في مستوى عال من الإتقان النظمي والتلحيني والغنائي وجاء بعضها في أحط دركات الأداء الفني رغم تعاون أعلام من الشعراء والملحنين والمطربين في إنتاجه ثم جاءت مواقف الإدانة لتضع كل هذه الأغنيات على رف واحد باعتبارها أدلة الثبوت على خيانة الفنان لجماهيره تكاد الحالة النقدية الشائعة تفترض أن المطربين والمطربات امتلكوا الاختيار بين الغناء للحكام أو عدمه والحقيقة أن أعلام الغناء الكبار وفي مقدمتهم أم كلثوم وعبد الوهاب لم ينعموا بهذه الحرية بل إن مساحة الاختيار كانت تتناسب عكسيا مع مكانة المطرب الفنية والجماهيرية فكلما اتسعت شعبية الفنان ضاقت أمامه مساحة التصرف وتقلصت فرص النأي بنفسه عن السلطة وفي العهد الملكي كان من الصعب جدا على عبد الوهاب وأم كلثوم أن يتجاهلا القوة الكبيرة للقصر والملك فاروق وبعد حركة الجيش في 23 يوليو تموز عام 1952 كان من المستحيل عليهما إكمال مسيرتهما الفنية من دون التغني باسم عبد الناصر الزعيم البطل المخلص يتذكر المهتمون بتاريخ أم كلثوم قصة منع صوتها من الإذاعة عدة أيام بعد حركة الجيش إلى أن افتقد عبد الناصر أغانيها واستفسر عن غياب صوتها فأخبروه أن الضابط المشرف على الإذاعة قرر منعها باعتبارها من رموز العهد البائد ليتدخل عبد الناصر رافضا هذا المنطق وأمر بعودة صوت الكوكب فورا دائما ما تروى هذه الواقعة بهذا القدر من التبسيط منع من ضابط طائش وإلغاء للمنع من عبد الناصر المتعقل لكن ليس هناك من شك في أن هذا المنع الذي دام أسبوعا أو أسبوعين أوصل رسالة واضحة إلى أم كلثوم وإلى عبد الوهاب وإلى كل المطربين أن الثورة قادرة على إنهاء المسيرة الفنية لأي منهم مهما بلغت شعبيته وسطوته الجماهيرية وأن استمرار النشاط الفني لأي مطرب أو مطربة مرهون بسماح العهد الجديد هذه الرسالة المبكرة كان لها أثرها على كل المطربين فلم تمض أعوام قليلة حتى أصبح الغناء للثورة وقائدها واجبا فنيا لا بد لكل مطرب أن يؤديه لكن الحالة النقدية ذات الطابع اليساري أرادت من المطربين أن يتحولوا إلى طليعة ثورية تقاوم الاستبداد السياسي فإن لم يستطع المطرب أن يكون مثل الشيخ إمام عيسى يهجو عبد الناصر ورموز عهده ويسخر من السادات وهيئته وزبيبة الصلاة في جبهته فلا أقل من أن يصمت عن تأييد الحاكم ولا يتورط في مديح نفاقي منغم تبثه وسائل إعلام السلطة آناء الليل وأطراف النهار وهذا مطلب يكاد يكون مستحيلا لا سيما في ظل عهود الأنظمة الشمولية التي هيمنت على كل ما يسمعه أو يشاهده أو يقرأه المواطن المسكين والمعادلة التي يعتمدها المطربون تحت هذه الظروف تتلخص في أنه لا بأس ببعض المديح حتى تبقى الأبواب مفتوحة أمام شلال هادر من الغناء العاطفي أو الوصفي أو الديني يفيض بالجمال والإبداع والطرب يمتلك النقد اليساري المؤدلج معاييره الخاصة لتوزيع الاتهامات وإصدار أحكام الإدانة التي تتفاوت بتفاوت مكانة المطرب ومدى تأثيره لذلك كانت أم كلثوم صاحبة النصيب الأكبر من الملاحقة بالاتهامات السياسية لأن الطلائع الثورية لم تكن تتحمل ولم يكن لديها قدرة على استيعاب حالة الاحترام الجماهيري الكبيرة والممتدة من بغداد إلى الرباط تجاه صوت أم كلثوم وفنها فلاحقوها باتهامات تغييب الشعوب وتخدير الجماهير والنفاق للسلطة وظنوا أن من أعظم أسلحتهم تكرار الإشارة إلى غناء أم كلثوم للملك فاروق ثم غنائها لعبد الناصر وهو ما يمثل بنظرهم تناقضا أخلاقيا لا يجوز أن ينال من تورط فيه كل هذا التبجيل والاحترام ويمكن أن نتذكر في هذا السياق كلمات أحمد فؤاد نجم التي يهجو بها أم كلثوم مدحتي عشرين ملك وميت وزير ورئيس مروان وعبد الملك والمفتري وعتريس بتغني بالزمبلك ولا أنتي صوت إبليس يتغافل هذا النقد عمدا عن السياقات السياسية والواقعية التي يأتي فيها الغناء للملوك طبيعيا لا يدينه أحد ولا يستنكره أحد ولولا أن انقلابا عسكريا أو ثورة قادها الجيش نجحت ليلة 23 يوليو لكانت تلك المدائح الملكية من مفاخر المطربين الوطنية لكن هذا الاتجاه النقدي كان يحاول إسقاط رموز فنية بأسباب غير فنية فكان من المحتم أن يتغافل عن السياق السياسي المتمثل في الصعود الكبير للمشروع الناصري وكون هذا المشروع مثل أملا كبيرا لقطاعات واسعة من المثقفين والأدباء والمفكرين ليس في مصر وحدها بل بامتداد العالم العربي كله وأن كل هؤلاء ظلوا في حالة تأييد شبه مطلق لعبد الناصر وزعامته ومشروعه حتى وقعت هزيمة يونيو حزيران 1967 وإذن فلا يمكن لأحد أن يقفز على هذا السياق التاريخي كله ثم يحمل مسؤولية تغييب الوعي والنفاق للسلطة لأم كلثوم أو عبد الوهاب أو عبد الحليم حافظ ومن المهم أن نشير إلى أن هذا النقد المؤدلج يحرص على تركيز جهوده المحدودة على عدد قليل من الشخصيات الفنية المؤثرة فمثلا حين ينتقد غناء أم كلثوم كلمات تقول يا جمال يا مثال الوطنية فإنه لا يتعرض بالنقد للملحن رياض السنباطي ولا للمؤلف صاحب المسيرة النضالية بيرم التونسي لأن هذا التشتيت لا يفيده في نيل غرضه بإسقاط المطربة صاحبة الجماهيرية الكاسحة ومن الخطط المهمة لهذا الاتجاه النقدي المؤدلج أنه حاول أن يثبت معنى الإمكان في رفض المطرب التماهي مع السلطة وزعيمها وأن التاريخ الفني يعرف مطربين شجعانا ممن قالوا لا فنالهم اضطهاد السلطة اخترع أصحاب هذا النقد المؤدلج قصصا وهمية حول أسباب تأميم شركة مصر فون التي أسسها الفنان محمد فوزي وزعموا أن التأميم كان عقابا له لأنه رفض أن يغني لثورة يوليو لا يحتاج من يبحث في المسألة إلا نظرة سريعة على أرشيف أغنيات فوزي ليجد أن الرجل تماهى تماما مع ثورة يوليو وقضاياها غنى الحياة ثورة وغنى الشعب لازم ينتصر تأييدا لحرب اليمن وغنى للعمال الأولة آه أو أنشودة العمل العام وغنى لتحرر القارة السمراء إفريقيا شعبك حر وغنى للمزارع ومداخن المصانع وتلك كانت قضايا يوليو التي يدور حولها المطربون والمطربات كان الرجوع للأرشيف أكبر ضربة تلقاها المؤدلجون فاستنفروا قواهم في محاولة يائسة أخيرة قالوا نعم غنى فوزي لثورة يوليو وقضاياها لكنه اضطهد لأنه لم يتغن باسم ناصر شخصيا والحقيقة أن هذا مستوى من الجدل المتكلف الذي لا يستحق بذل أي جهد لتبيين ضعفه وسقوطه لكنه مع الأسف ينطلي على قطاعات واسعة من الشباب والأجيال الجديدة وهنا قد يكون مفيدا أن ننبه إلى أن عشرات المطربين والمطربات لم يتغنوا باسم ناصر شخصيا من دون أن يطاولهم أذى أو اضطهاد لكن الأرشيف يكفينا كل هذا العناء فقد غنى محمد فوزي للثورة وتغنى باسم زعيمها في قصيدة من نظم الشاعر عبد الفتاح مصطفى تقول كلماتها أنا عائد أنا سيد في موطني قد قالها البطل الذي للعرب قد حفظ الوفاء وإذا غيوم اليأس يمحوها للأفق الضياء مرحى جمال مرحى جمال لقد رسمت اليوم درب العودة مرحى ففي العود الكريم سنن يصون كرامتي حيفا فديتك حيفا يوم لقيانا لقد أضحى قريبا فجمال شق لعودة الأحرار يا وطني دروبا إذن لم يكن القول إن فوزي لم يغن لثورة يوليو ولا لزعيمها جمال عبد الناصر إلا كذبة كبيرة سقطت على عتبات الأرشيف لا يكف النقد المؤدلج عن المغالطات وتجاوز السياقات السياسية والتاريخية المتباينة بين البلدان العربية فتجد بعض أقلامه تصر على عقد المقارنات بين فيروز باعتبارها لم تغن لحاكم وبين غيرها من المطربات أو المطربين مع تغافل عن أن فيروز عاشت حياتها مستفيدة من توازنات السياسة في لبنان ولم تكن مضطرة يوما إلى إرضاء أحد وأن من يمتلك هذه المساحة من الاختيار لا يمكن أن يقارن بمطرب عاش في عراق صدام حسين أو سورية حافظ الأسد حيث يمكن أن يكون شبه عدم التحمس إلى الغناء باسم الزعيم سببا للسحق والقتل والاختفاء واضطهاد الأقارب هذه مقارنات تفتقد إلى العدالة كما أن الأقلام التي تنتمي إلى النقد المؤدلج ليست على طريق واحد فالناصريون مثلا يرون في غناء عبد الحليم حافظ لعبد الناصر تجسيدا لمشروع قومي لن تنهض الأمة إلا باستعادته وهم يبررون في هذا السياق كل أشكال المديح الغنائي حتى تلك التي أصبحت محل سخرية الأجيال المتتالية مثل ناصر يا حرية ناصر يا وطنية يا روح الأمة العربية يا ناصر وهم في نفس الوقت سيعتبرون أن أغنيات المطربة فايدة كامل للسادات ليست إلا انقلابا على مسيرتها الفنية في الغناء الوطني الناصري القومي العروبي وأنه ما كان ينبغي لمثلها أن تغني كلمات تقول يا سادات يا قائدنا يا سادات يا زعيمنا مصر العيلة بتدعيلك تسلم إيد اللي حاميها ربنا يحميك ويزيدك ويبارك حبك ليها دي سفينة وكانت عايزة ريسها اللي يعديها أطلق بعض الكتاب على فايدة كامل لقب صوت السلطة لأنها غنت لرئيسين يختلفان في التوجه السياسي والاقتصادي لكن من يطلق هذه الألقاب المؤدلجة فاته أن مطربين كبارا آخرين غنوا للسادات بعد أن مدحوا ناصر بغنائهم ومنهم سيد مكاوي وفايزة أحمد التي غنت كلمات تقول قول يا سادات ياللي كلامك حكم قول يا سادات الشعب هيقولك نعم كانت تلك الأغاني أشبه بضرورة فنية تفرضها ظروف سياسية قاهرة كانت الطريق الوحيد للبقاء