العلم والسلطة معركة الحقيقة والقوة
منذ أن بدأ الإنسان يسأل، أصبحت المعرفة مصدراً لقلق السلطة. فالعلم بطبيعته قوة تحرّر؛ يكشف ما تريد الأنظمة إخفاءه، ويُنتج شرعية معرفية موازية للشرعية السياسية، ويحرّر الإنسان من الخرافة ويمنحه القدرة على التفكير خارج نطاق الهيمنة.
لذلك، فإن الصراع بين العالِم والحاكِم ليس حادثاً تاريخياً، بل هو صراع بنيوي بين العلم بوصفه بحثاً عن الحقيقة، والسلطة بوصفها ادعاءً بامتلاك تلك الحقيقة.
وهو التوتر نفسه الذي يجعل الحضارات تحتفي بعلمائها بعد موتهم، بينما كانت تضطهدهم في حياتهم. الإسلام كرّم ابن رشد وابن سينا، لكن السلطة سجنتهما أو نفتهما. أوروبا تعتبر غاليليو رائداً، لكنها حاكمته. الصين تتفاخر بتراثها المعرفي، لكنها أبادت كتب علمائها في عصر واحد. المفارقة إذن ليست إسلامية أو عربية، ولا شرقية أو غربية؛ إنها إنسانية.
يرى ميشيل فوكو أن السلطة ليست مجرد مؤسسات، بل شبكة واسعة لإنتاج الحقيقة والسيطرة على ما يُعدّ معرفة. وبذلك يصبح العالِم منافساً سياسياً، لأن ما يقوله لا يبقى في حدود الأفكار، بل يلامس تعريف الحقيقة نفسها. ومن هذا المنظور يصبح العالِم - دون سلاح - قادراً على إرباك السلطة لأنها تخشى صوتاً لا يمكن إخضاعه إلا بالقوة.
عاش ابن سينا نموذجاً حياً لمعادلة المعرفة في مواجهة السلطة. فقد سجنه حاكم همدان، ثم حرّره حاكم آخر هو علاء الدولة محمد وقاده معه إلى أصفهان. اضطهدته الدولة لكنه بقي أقوى من السلطة؛ فالمجتمع هو من احتضنه، ولذلك خُلّدت كتبه. إنه مثال واضح على أن العالِم ينجو بفكره لا بولائه.
أما ابن رشد، الفيلسوف الذي نفته السلطة واحتفى به الغرب، فقد أُحرقت كتبه في الأندلس، ثم أصبحت أساس النهضة الأوروبية بعد وفاته. لم تكن المشكلة في الإسلام، بل في السلطة السياسية التي رأت في فلسفته خطراً على خطابها الديني - السياسي. وبعد قرون، أعادت الأمة الإسلامية اكتشافه والاحتفاء به. القمع كان سياسياً، والاحتفاء كان ثقافياً.
واستخدم ابن الهيثم الجنون استراتيجية مقاومة أمام قمع السلطة. فعندما أدرك استحالة تنفيذ مشروع هندسي طلبه الحاكم الفاطمي، تظاهر بالجنون لينجو بعلمه.
ارسال الخبر الى: