الطبيب الإنسان كتب سعيد النخعي
كنت طفلًا صغيرًا حين كانت أمي تحملني على ظهرها في فوج من النسوة؛ فيهن الراجلة على قدميها، والراكبة على حمارها، يقطعن أعناق المسافات من مختلف قرى دثينة المتناثرة،حتى يحط الركب رحالة أمام مبنى صغير ؛مكون من غرفتين مدهونتين بالطلاء الأبيض ،ويلفهما سياج من الشبك الأخضر ،يتخذ الناس من أعمدته الحديدية مرابطًا لحميرهم التي كانت تقل المرضى القادمين من مختلف قرى دثينة المترامية،الموزعة بين مديرتي لودر ومودية، بعد أن رفضت الحكومات المتعاقبة ضمها في مديرية إدارية واحدة .
وفي كل مرة نجد ذات الطبيب،وذات الشخص الذي يمارس عمله بمفرده دون معاون،رغم كثرة المرضى بسبب كثرة القرى،ولعدم وجود وحدة صحية غيرها.
عمر بانافع، اسم تعودنا على سماعه صغارًا،وكبارًا ،كلما هاجمت الأمراض ،وجوائح الأوبئة قرى المنطقة ؛فيفزعون إليه لعلاج الصغار والكبار، النساء، والرجال، دون تمييز بين مرض مزمن، أو جائحة عابرة.
الطبيب عمر بانافع الضيف العابر الذي طاف بيوت المسنين والمقعدين، والمرضى من كبار السن الذي لم تعد أرجلهم قادرة على أن تحملهم إليه،في قرٍ فلاحية فقيرة، لا تتوفر فيها وسائل المواصلات،وقبل ظهور الاتصالات ؛فيلجأ ذوي المريض إرسال شابًا فتيًا يطوي المسافة طيًا حتى يصل إليه ،فيأتي إليه مسرعًا بسيارته البيكاب ذات اللون الأبيض التي تخبر كل من يراها في الطريق أن هناك مريضًا في قرية ما،ويعلم أهل القرية أن في البيت الذي تقف أمامه مريضًا...عمر بانافع مساعد طبيب ماهر أجزم أن خبرته العملية تساوي خبرة استشاري،تخرج في سبعينات القرن الماضي ،وعمل موظفًا في مكتب الصحة في عيادة صغيرة في قرية الدخلة التي تتوسط قرى دثينة ،وظل مرابطًا فيها لم يبرح مكانه منذ خمسين سنة حتى اليوم .
دار الزمان دورته، وتخلت الدولة عن واجبها الوطني والإنساني،لكن الطبيب عمر بانافع لم يتخل عن واجبه الإنساني لحظة واحدة، رغم مضي أكثر من عشرين عامًا من إحالته على التقاعد،وأكثر من ثلاثين سنة على تواري مرافق الدولة التي هجرت؛ بعد أن رفعت الدولة يدها عن دعمها ،وتزويدها بما تحتاجه من مقومات البقاء،ليترك الراهب الدير بعد أن
أرسل هذا الخبر لأصدقائك على