من الصحف إلى الشاشات تحولات الحراك السياسي
إذا كان القرن العشرون هو زمن المثقف النخبوي، حامل القلم وصاحب البيان، فإن القرن الحادي والعشرين هو زمن المواطن الرقمي، حامل الهاتف وصانع الهاشتاغ.
لم يعد الحراك السياسي يُدار من قبل النخب التقليدية وحدها، إذ انزلقت سلطة التأثير من يد المنابر الرسمية إلى ملايين الشاشات الصغيرة، مما يعكس موت شكل تاريخي من النخبوية يقوم على امتلاك المعرفة واحتكار الخطاب.
ففي القرن العشرين، كان المثقف النخبوي حارس الوعي وصوت المقاومة، نشطاً ضد الاستعمار من خلال الصحف والكتب والبيانات التي كانت تمثل فعل مقاومة ينتهي بالاعتقال أو النفي أو القتل. هذا العمل كان يحتاج إلى وعي وثقافة وقدرة على الإحاطة بقواعد الكتابة، ولهذا اقتصر على نخبة مفكرة اعتمدت عليها الجماهير لصياغة رد فعل سياسي يقود نحو الاستقلال. برزت أمثلة من تونس مثل جماعة تحت السور، وفي مصر طه حسين والعقاد، وفي المغرب والجزائر شعراء وروائيون قرئت كتاباتهم كبيانات سياسية. ومن ثم كان الشباب المثقف قادة لوعي جماعي صنعوا خطابًا تعبويًّا طويل النفس، فكانت الكلمة تُرفع قبل البندقية.
أما في القرن الحادي والعشرين، فقد ظهر الجيل الرقمي الذي يمارس الحراك بالهاتف والهاشتاغ. لم يعد الحراك يحتاج إلى صحيفة، بل يكفي هاتف ذكي ومنشور أو فيديو. انهارت أسس النخبوية التقليدية وظهرت النخبة الشبكية التي تصنع الرأي العام بعدد المتابعات، بغض النظر عن الخلفية الثقافية. السياسة اليوم تمارس في فضاء رقمي سريع، قائم على ردات الفعل والصدمة العاطفية والصور. وقد بدا ذلك واضحًا في حرب غزة الأخيرة، حيث تحولت مواقع التواصل إلى جبهة جديدة للحرب الإعلامية، وصار الشباب محللاً وناشطًا يطلق الهاشتاغات. الوعي أصبح انفعاليًّا سريع التشكل وسريع الاختفاء، مبنيًّا على الصورة أكثر من التحليل. ورغم المسيرات والمقاطعة، لم يحصل تغيير حقيقي في سياسات البلدان العربية، وظل الحراك محكومًا بالآنية والخوارزميات، لا ينتج وعيًا ولا مشروعًا طويل النفس.
المقارنة بين المثقف القديم والمواطن الرقمي تكشف اختلافًا جذريًّا في الوعي والزمن. المثقف القديم عاش زمنًا بطيئًا، تُطهى فيه الأفكار على نار هادئة، بينما يعيش الجيل الرقمي
ارسال الخبر الى: