من السماء إلى الأرض

صوت كابتن الطائرة يأتي من ميكروفونات شفافة، مجهَّزة لنقل صوته الرصين القادم من قمرة القيادة إلينا، وهو الراعي الذي يقودنا إلى المهبط الآمن بإذن الله.
من يجلس على نافذة الطائرة في نهار رائق كالذي سافرت فيه، يرى كل شيء من الأعلى؛ حيث تبدو السحب على مرمى حجر منك، وترى الأرض بعيدة كبُعد السماء وأنت مستلقٍ على أعشاب فناء منزلك الجميل، متأملًا تلك السُحب البعيدة جدًا.
أنا الآن أطير في علٍ متوهج مثل نجم سماوي عظيم، أتأمل عروج النبي صلوات الله عليه، قبل ألف وأربعمائة سنة، كيف كانت مشاعره، وهو يبتعد أكثر مما وصلنا إليه – ربما بآلاف الكيلومترات – حتى دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى.
ما كذب الفؤاد ما رأى.. وأنا أشاهد بعينيّ الصغيرتين انهيار النهار ودنو الليل القريب، مع وصولنا الآمن بسلامة الله إلى مطار آخر يبعد عن موطن سكني وعائلتي ثلاثة آلاف كيلومتر، وهو أمر سهل بحساب الزمن مع ناقلة حديدية تنفث محركاتها بشراسة، وتمخر عباب السماء لتدنو من أقرب نجمة متلألئة هناك. وأسأل نفسي: أين تغور النجوم في الصباح؟ هل تبقى في مكانها حتى يغمرها ضوء الشمس، كما يفعل بأيامنا المتلاحقة، فتغيب عن أنظارنا القاصرة، ثم يأتي الليل لتستعيد وظيفتها الأثيرة، فتكون زينة السماء؟
قال أحدهم: إن النجوم يتجملن كل صباح، حتى الغسق، فيعدن إلينا بكامل زينتهن، متوهجات، متأنقات، متألقات، مضيئات، وأنوارا.
في الأعلى، قبل أن تُحلّق الطائرة، كان رجل المطار الذي يحمل إشارات مضيئة في يديه يبدو عاديًا، والمبنى الذي يخترقه ممر الوصول إلى بطن الطائرة يبدو كبيرًا، والسقف عالٍ وأنيق. عندما بدأت الطائرة في الارتفاع نحو السماء، تضاءل كل شيء، حتى بات مسمار الجناح الأيمن للطائرة أكبر من حديقة ضخمة، وأوسع من قصر باذخ يفوق سعره ملايين الريالات. وأما القطعة المعدنية الصغيرة المُعلّقة بالجناح النفّاث فأكبر بعشرات المرات من حيّ سكني كامل. وأُحدِث نفسي: كيف تكون هذه الأشياء الصغيرة كبيرة؟ وأنا في الأعلى أحلق كما النسر الذي جعله أجدادنا رمزًا لهم، ويظل السؤال
ارسال الخبر الى: