بالمصادفة وحدها رحل ثلاثة من المبدعين السوريين المتميزين في يوم واحد 15 أيار مايو سعد الله ونوس 1941 1997 كاتب مسرحي كان يكبر باستمرار لا بمهارته في إبداع نص مسرحي متقن وحسب بل وبأفكاره المتجددة وإصراره على الهرب من علم مستقر يعتبره الفيلسوف العربي النفري جهلا مستقرا كان سعد الله محسوبا على التيار الماركسي ولكنه الأكثر شجاعة في التحذير من الجدانوفية أي مبادئ جدانوف وزير الإعلام السوفييتي الستاليني الذي أرسى دعائم الالتزام بالحزب والسلطة والقائد ومحاربة المجددين ونعتهم بأنهم تحريفيون تلفيقيون توفيقيون إلخ ولعل أبرز ما أراده سعد الله أن يكون الشعب شريكا في المسرح وفي سياسة البلد وهو أول من تجرأ بالإشارة إلى هزيمة حزيران 1967 بدليل أن مسرحيته حفلة سمر من أجل 5 حزيران منع عرضها أكثر من مرة كان من الطبيعي أن يحتفي سعد الله بالظهور المدوي للمخرج المسرحي فواز الساجر 1948 1988 على الساحة السورية وأن يشكلا ثنائيا إبداعيا مسرحيا اتسم بالمغامرة والتجريب والتحديث والتخلي عن الخطابة بوصفها أسلوبا لغويا ديماغوجيا مضللا قدما معا يوميات مجنون عن نص لنيقولاي غوغول ورحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة التي اقتبسها سعد الله عن مسرحية للكاتب الألماني بيتر فايس وقد تبنيا في بداياتهما مذهب برتولد بريخت القائم على إزالة جميع أنواع الحواجز بين المسرح والجمهور وفي المرحلة الثانية اعتمد الساجر في تعامله مع الممثلين منهج ستانسلافسكي الروسي الذي يرى من واجب الممثل أن يدرس الحياة الداخلية للشخصية التي سيلعب دورها ويقدمها كما لو أنها حية وبحسب ما تروي الممثلة أمل حويجة التي عملت معه في مسرحية سكان الكهف المأخوذة عن نص لوليام سارويان أواخر سنة 1987 أن فواز كان يطالب الممثل بفهم الشخصية التي سيمثلها ظروفها وخيالاتها وذاكرتها الانفعالية وأن تظهر انعكاساتها عليه خلال العرض جسديا ونفسيا وكان يجري للطلاب في دروس المعهد العالي للفنون المسرحية اختبارات طويلة فيقول مثلا تخيل نفسك ماشيا في برية والشمس ساطعة والعصافير تزقزق وفجأة ضللت طريقك ووجدت نفسك في صحراء والسماء غامت وضعفت الرؤية وشعرت بالبرد وهبت نسائم هواء ونزل رذاذ خفيف ثم اشتدت الرياح انطلقت زوبعة الرياح أخذت تصفر وتقتلع الأشجار وبعد قليل بدأت الأمور تهدأ والرؤية تتحسن ما أنجزه سعد الله ونوس وفواز الساجر في المحصلة أنهما تمكنا من جذب أعداد كبيرة من الناس إلى مسرح جديد لا هو بالتجاري ولا بالخطابي التنفيسي وصار لهذا المسرح شباك تذاكر خاص به والأمر نفسه حصل مع ظهور فيلم رسائل شفهية سنة 1991 للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد 1954 2024 من إنتاج المؤسسة العامة للسينما التي كانت تنتج فيلما واحدا في السنة تعرضه بضعة أيام في صالة الكندي ثم ترفعه ولا يظهر إلا في المهرجانات الدولية بينما اكتسح هذا الفيلم الموقف وكسر الدنيا كما يقولون وأصبح لسينما الكندي زوار يمكن أن تقطع متعة الفرجة لديهم تعليقات أشخاص يحضرون الفيلم نفسه للمرة الخامسة أو السادسة مجموعة من المفاجآت استطاع عبد اللطيف تحقيقها في الفيلم أولها تقديم الحوار بلهجة أهل جبال الساحل العلويين وقد بدأ هذه التجربة قبله أسامة محمد في فيلم نجوم النهار وثانيها تلك الكوميديا التي تصدر عن أناس كل شيء في حياتهم جاد بمعنى أنها كوميديا شعبية عفوية وثالثها إسناد الدور الرئيسي في الفيلم لفنان لم يكن معروفا وقتئذ فايز قزق الذي اشتهر فيما بعد بأداء الأدوار المركبة الصعبة لم يسلم أي من المبدعين الثلاثة كما هي العادة في سورية من نقد وتشكيك واتهامات أرى وأنا أخوكم من الأفضل تجنب الخوض فيها والتركيز على الشيء المهم في المسألة الإبداع