نحن في الداخل خاص يطاول عاما موجعا

٣٨ مشاهدة
من دون حاجة إلى توضيح أسباب عودتها إلى طرابلس بعد غياب 15 عاما تضع فرح قاسم 1987 نفسها في شقة والدها في تلك المدينة اللبنانية كأنها لم تغادر ذلك المكان إلا لساعات تقترح على مصورها تيبي شونينغ التعامل مع وجودهما في مكان واحد كما لو أنهما أب عجوز وابنته الشابة يمضيان حياة سوية لا انقطاع فيها تفضي في نهاية المطاف إلى افتراق محتوم والدها الشاعر مصطفى قاسم يتماهى بعفوية مع تصورها السينمائي ويتعامل مع وجودها كما لو أنها لم تغادر منزله يوما شاعر يتلهى ويستأنس بالكلمات والصور الشعرية ولا يعرف عالما غيرهما يتشارك مع أشباهه من أدباء المدينة شغفه الأدبي ويمضي جل وقته معهم شعراء في سبعينيات أعمارهم يتبادلون الكلمات ويعيدون فيما بينهم صوغ أبيات شعرية يكتبونها كأنها تبقيهم أحياء تشغل الحوارات بينها وبين والدها المساحة الأكبر من زمن وثائقيها نحن في الداخل 2024 وعبرها تتكشف وشائج عائلية تتسع مدياتها لتطاول تخوم عوالم إنسانية أوسع لا تستعجل فرح الكشف عنها هذا يترك حرية أكبر للتوليف السينمائي للتحرك فما تلتقطه الكاميرا من ضيق المساحة ـ الشقة يفتح التوليف البارع نوس سكوف ياويبسن فضاءات أكبر للخروج منها اجتماعات دورية للشعراء والأدباء في منازلهم أو في المنتدى الأدبي الذي يلم شملهم ويعتكفون فيه وحدهم في عزلة اختيارية ورقة ملصقة على بابه مكتوب فيها نحن في الداخل تشير إلى رغبة في الانكفاء والانسحاب من خارج مأزوم يقلق أعمارهم التي لم تعد تحتمل أحزانا ولا أعباء أكثر تلتقط فرح ما في تلك العزلة البهية من أفراح عابرة تلين قسوة مشهد عام يمر به لبنان ويشعر بها كل مقيم فيه شعراء بلغوا من العمر عتيا يتناولون الحلوى رغم إصابة أكثريتهم بـالسكري يتمازحون ويتجادلون فيما بينهم حول الحداثة الشعرية وضرورتها بينما يتحفظ مصطفى قاسم عليها ويصر على كتابة الشعر المقفى والموزون وبغير هذا لا يعترف إلى هذا العالم جاءت ابنته واقتحمته فرضت نفسها بهدوء عليه هي الشابة المنشغلة بعالمها السينمائي تأتي إلى الأدب وتقترب بمحاولاتها الشعرية من نخبة يؤشر وجودها إلى حضور ثقافي ومعرفي متأصل السياسة تريد تغييبه لتسهل على المنتفعين منها شيطنة مدينتهم ووصمها بـالتطرف هذا جانب لا تقترب منه فرح لكن سلوك والدها وحواراتها معه التي تتعمد مشاكسته بها إلى جانب تطورات دراماتيكية رافقت أحداثا مسلحة وتصادمات تشهدها المدينة تراقبها الكاميرا بحذر عبر نافذة الشقة هذا كله يستنطق مواقفه ورؤياه المنفتحة اجتماعيا التي لا تخلو تماما من محافظة تقليدية في إهداء ديوانه لها ولأخيها لا ينسى الإشارة إلى حسرته على تأخر زواجها رغم فرحته بالنجاحات التي حققتها بصفتها سينمائية في المشهد العام الجامع بينه وبينها لا وجود لتعصب ديني لديه هناك سوية في تعامله مع إيمانه إذ لا يفرضه على غيره ولا حتى على ابنته حواراته معها تجلي حزنا كامنا فيه يعبر عنه بالشعر غالبا وأحيانا شفاها ما يمر به البلد من أزمات يقلقه وفي اللحظة التي انطلقت فيها الثورة اللبنانية ضد فساد الحكام تعاطف معها مع بعض انحياز ضمني إلى مناطقيته لكنه لم يذهب أبعد من هذا مثل ابنته شيد في ذهنه حلما جميلا لوطنه لكنه انهار سريعا وتلاشى حالته الصحية الآخذة بالتدهور تأتي إليها فرح عبر ملاصقتها الشديدة واليومية له ومن خارجها تتشارك معهم حمامات بنت أعشاشها ووضعت بيوضها على حافة نافذة الشقة وبدت كأنها جزء منهم تراقب الكاميرا وجودها وما يجري في الخارج من تصادمات عبر تلك النافذة الضيقة كما تعاين حالة الشاعر النفسية والجسدية وتسجل تغيراتها الزمن في الشقة يمضي ببطء ويعزز إحساسا بأن نهاية الشاعر آتية لم تفتعل صانعة الوثائقي المدهش في قوة اشتغاله الجمالي وتشبع مساراته الدرامية بشاعرية ظاهرة ذلك الإحساس تتركه كما هو ثابت الحضور منذ لحظة وصولها إلى طرابلس حتى لحظة موته ولأنها لا تميل إلى استجداء عواطف مجانية من المتفرج على فيلمها تعمدت طيلة زمنه 177 دقيقة ترك الأحداث والتفاصيل اليومية الحضور بنفسها كما في الواقع ولإضفاء روح درامية على وقائعها تتكفل الموسيقى التصويرية يون سنسماير في ضبط انفعالاتها وتأطير تصاعدها وفق المكتوب على الورق السيناريو للمخرجة أيضا أو ما يأتي عفويا أثناء التصوير ويراد له أن يساهم في تشكيل منجز سينمائي يتجاوز البورتريه الشخصي إلى الأعمق في العلاقة الإنسانية الجامعة بين أب وابنته الخائفة من أن يأخذ النسيان معه ذكريات تريد الاحتفاظ بها حتى لا يطويها الغياب وتندم فيما بعد على ضياعها المتحقق في المنجز السينمائي لفرح قاسم يؤكد اختيارها نسقا أسلوبيا لبنانيا خاصا أضحى مع الوقت جزءا من هوية سينماها الوثائقية أسلوب ينطلق من العائلي الحميمي إلى العام المتأزم من دون إقحام الأخير في مساراته العاطفية والانفعالية هذا يجعل نحن في الداخل أحد أجمل أفلام ذلك الأسلوب الذي لا يجيده سوى من تمرن على حرية التعبير وتحلى بشجاعة داخلية ستكون في النهاية شرطا لازما لإنجاز وثائقي رائع كوثائقيها

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح