تشهد منطقة الخليج عديدا من التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل وكذلك الأمنية والعسكرية ولا تقف حدود التناقض عند الأطر العملية والممارسات والسياسات التي تتبناها الدول في ضفتي الخليج شرقا وغربا ولكن أيضا عند الأطر المفاهيمية وفي مقدمتها تسمية الخليج في ذاته وهل هو فارسي أم عربي ومع أن كثيرا من هذه التناقضات يمكن تسويتها وتجاوزها فإن أحد المداخل لذلك يتمثل في محاولة تقريب وجهات النظر حول العقيدة الأمنية للدول الخليجية وخاصة أننا أمام تداخل في العقائد بتعدد الأطراف الدولية المتنافسة والمتصارعة على النفوذ والثروات والقدرات في المنطقة وفي هذا الإطار يبرز مفهومان في غاية الأهمية يمكن أن يشكلا مدخلا لتحليل العقائد الأمنية في منطقة الخليج وهما مفهوما المنطقة القوية والمعضلة الأمنية ففي وقت تطرح فيه إيران منذ أكثر من خمس سنوات مفهوم المنطقة الأمنية تطرح النخب السياسية والفكرية في دول الخليج العربية مفهوم المعضلة الأمنية والمفهومان يعبران عن عقيدتين أمنيتين متناقضتين لكن لو توفرت الإرادة السياسية الحقيقية يمكن تجاوز هذا التناقض وفق إجراءات محددة وواضحة في التاسع من يناير كانون الثاني 2019 قدم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال اجتماع رايسينيا الدولي للحوار شرحا عن ركائز نظرية المنطقة القوية وقال إننا اليوم بدلا من هيمنة رجال أقوياء بحاجة إلى بناء منطقة قوية وإن الاستقرار السياسي والوطني المحلي والاعتماد على الجمهور هما مصدرا القوة وشرعية الأمن والسعادة كما أن التنسيق بين الهوية الوطنية والمواطنة الإقليمية من الركائز الأخرى لتحقيق منطقة قوية وأضاف أن مساهمة الدول الإقليمية كافة المعنية في إرساء السلام في المنطقة عن طريق الأجهزة والمنظمات الإقليمية واتخاذ الإجراءات اللازمة من الركائز الأخرى لتحقيق منطقة قوية وأن الثقة والتجارة وتعزيز التواصل بين الدول الإقليمية بدلا من القوى الأجنبية وكذلك محورية العلاقات الاقتصادية والتعامل بين الناس الذي يجعل الإقبال على الحرب ذا تكاليف باهظة وغير قابل للتبرير تعد من الأسس الأخرى لهذه النظرية وتابع ظريف أن الثقافة الإقليمية التي لا تعتبر الأمن القومي منفصلا عن الأمن الإقليمي وكذلك البيئة الإقليمية المستقرة تعدان من العناصر الأخرى لنظرية المنطقة القوية ولفت إلى أن الجمهورية الإسلامية تمد مرة أخرى يد الصداقة نحو دول الجوار في منطقة الخليج الفارسي لكي نتقدم معا في هذا المسار وأن الحوار الحقيقي يتطلب مكانة متكافئة واحتراما متبادلا بين الجانبين وكذلك تحديد المصادر المنوعة للعلم والحكمة واستنادا إلى هذه المنطلقات ذكر ظريف أن المنطقة القوية تتميز بالسمات التالية الاستقرار السياسي والإقليمي المحلي والاعتماد على الجماهير مصدرا للشرعية والأمن والازدهار وتنسيق الهويات الوطنية والمواطنة الإقليمية ومشاركة جميع الدول الإقليمية ذات الصلة في ضمان السلام في المنطقة من خلال المؤسسات الإقليمية أو المنظمات أو الترتيبات الخاصة ومزيد من الثقة ومزيد من التجارة والمزيد من التفاعل بين البلدان في المنطقة مقارنة بالقوى الخارجية والعلاقات الاقتصادية والتفاعلات التي تركز على الناس مما يجعل أي لجوء إلى الحرب مكلفا وغير مقبول وثقافة إقليمية تضع الأمن القومي على قدم المساواة مع الأمن الإقليمي وبيئة إقليمية مستدامة وفي إطار هذه السمات أكد ظريف استعداد إيران لإشراك جيرانها وكل المهتمين باستقرار هذه المنطقة المحورية القائمة على الامتثال الجماعي والجمعي للمبادئ لتحقيق عدة أهداف من بينها كما جاء في نص كلمته المحافظة على السلامة الإقليمية واستقرار دول المنطقة من خلال تعزيز الحكم المحلي ومنع العدوان الخارجي تعزيز الحكم الرشيد في جميع أنحاء المنطقة ممارسة ضبط النفس الاستراتيجي من قبل جميع الجهات الفاعلة الإقليمية عدم انتشار الأسلحة النووية استئصال أسلحة الدمار الشامل منع سباق التسلح التقليدي المكلف والمزعزع للاستقرار تعزيز التوازن الإقليمي ورفض الهيمنة من قبل القوى الإقليمية أو فوق الإقليمية تعزيز البراعة الاقتصادية الإقليمية والحكم الرشيد الالتزام بالتعددية الربط والاستخدام الفعال لممرات العبور بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب تطرح إيران مفهوم المنطقة الأمنية وتطرح النخب في دول الخليج مفهوم المعضلة الأمنية والمفهومان يعبران عن عقيدتين أمنيتين متناقضتين يقصد بمفهوم المعضلة الأمنية في أحد تعريفاته أن أي دولة لتكون في مأمن من مخاطر هجوم دولة أخرى أو تجنب تهديدها تسعى إلى الحصول على مزيد من القوة التي تحميها من عدوان محتمل والخروج من تأثير قوة الآخرين عليها لكن هذا يجعل الطرف الآخر يشعر بمزيد من اللاأمن مما يدفعه للتأهب للأسوأ وبما أنه يستحيل أن يشعر طرف ما بالأمن الكامل كما يصعب للدول الاطمئنان أو الثقة في نيات الدول الأخرى فإن هذا يعني استمرار كل الأطراف في السعي نحو الحصول على مزيد من القوة ويصبح الصراع من أجل القوة أساس بنية العلاقات سواء في النسق الإقليمي أو النسق الدولي وتصبح المعضلة الأمنية هي الحالة التي تسعى فيها الدول لزيادة أمنها في مواجهة أو على حساب أمن الآخرين وهو ما يدفع الآخرين لتبني نفس السياسات وتدخل المنطقة في دائرة مفرغة من السباق سواء الاقتصادي أو الأمني أو العسكري وكل طرف يفسر الإجراءات التي يقوم بها على أنها إجراءات دفاعية ويفسر الإجراءات التي يقـوم بها الآخرون على أنها تشكل خطرا محتملا ويعتقد كثيرون أن السبب الرئيس للمعضلة الأمنية هو السعي نحو تحقيق توازن القوى والردع المتبادل وأن الوصول إلى حالة التوازن والردع كفيل بتحقيق الأمن والاستقرار بين الأطراف المعنية في المنطقة إلا أن التصور يحتاج إلى مزيد من التفكيك لأن بنية النظام الدولي وبنية النظم في معظم الأقاليم لا تشهد مثل هذا التوازن ولا يتوفر فيها الرد وتتبنى دولها سياسات تعاونية من شأنها التخفيف من حالة التوتر وعدم الاستقرار وفي تحليله مفهوم المعضلة الأمنية في مجال العلاقات الدولية يرى باري بوزان أحد أهم المنظرين المعاصرين في الدراسات الأمنية والاستراتيجية أن الدولة القومية هي المصدر الأعلى للسلطة وهي المعنية بموضوع الأمن القومي وأن العلاقات الأمنية هي علاقات اعتماد متبادل وليست أحادية الجانب وأن الأمن دائما ذو طبيعة نسبية وفي غياب سلطة عليا للنظام الدولي ضابطة وعادلة تصبح مصادر التهديد موجودة في داخل النظام نفسه بما ينعكس سلبا على تفاعلات مختلف الأطراف وهنا يكون من بين البدائل الاستراتيجية لتجاوز المعضلات الأمنية تعزيز سياسات الأمن الإقليمي المشترك والأمن الجماعي المشترك القائم على التوزيع الدقيق للمهمات والأدوار وليس على هيمنة قوة إقليمية على باقي الأطراف أو التحول من فكرة شرطي العالم إلى فكرة شرطي المنطقة من شأن استمرار تبني فكرة المعضلة الأمنية وهيمنتها على الفكر السياسي لدول المنطقة استنزاف قدراتها السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية إن دول الخليج العربية في ظل هيمنة عقيدة المعضلة الأمنية اتجهت إلى عقد شراكات واتفاقيات أمنية وعسكرية مع عديد من الأطراف من خارج المنطقة وفي المقابل تحركت إيران لتعزيز تحالفاتها الأمنية والعسكرية مع أطراف عديدة من خارج الإقليم أيضا ولن يستطيع الطرفان الخروج من دائرة العقائد الأمنية المتعارضة بل المتناقضة إلا بحوار حقيقي وجاد يقوم على الوضوح الكامل في الرؤية لأمن الخليج وكيفية تعزيز قدرات الأمن الذاتي لدول المنطقة وهذا لا يعني تجاوز هذه الدول علاقاتها مع أطراف من خارج المنطقة ولكن كيفية توظيف هذه العلاقات لتعزيز الأمن الإقليمي وتحييد فكرة المعضلة الأمنية لأن من شأن استمرار تبنيها وهيمنتها على الفكر السياسي لدول المنطقة استنزاف قدراتها السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية وإذا كانت فكرة المنطقة القوية جيدة من الناحية النظرية إلا أنها تصطدم بعديد من المعوقات التي تحتاج إلى ضرورة تفكيكها والتغلب عليها في مقدمتها بناء الثقة بين إيران من ناحية ودول الخليج العربية من ناحية ثانية وبناء قائمة بسجلات المخاطر المشتركة بين الطرفين وتحتاج تعاونهما المشترك لمواجهتها ويمكن أن يكون مدخل التعاون في إدارة المخاطر والكوارث العابرة لحدود الدول وقدراتها آلية لتعزيز التعاون وبناء الثقة ومقدمات تأسيسية لبناء المنطقة القوية التي تشكل قوة كل دولة فيها قوة لباقي الدول وليس تهديدا لها الطريق طويل ويحتاج مجهودا كبيرا لكن أن تبدأ ولو على مستوى الفكر والحوار أفضل من الانتظار ومتابعة هذا التدمير الممنهج للقدرات الذاتية لدول المنطقة واستنزاف قدراتها في صراعات وأزمات لن تتوقف طالما استمرت الرؤى متعارضة أو متناقضة