الحياة بالمقارنة

٥٥ مشاهدة
مثل كثيرين بينكم كنت يوميا ومنذ شهور ألوم نفسي في مكان ما من عقلي لعيش حياة طبيعية ولو كانت بربع ما تعنيه الكلمة من معنى وليس بكل ما تعنيه في حين أن جرائم الإبادة ترتكب بالجملة على مدار الساعة وعلى بعد أقل من مئة كيلومتر من بيتي دون القدرة على إعاقتها أو منعها أو إنقاذ ضحاياها كل ما كنت ولا أزال أملكه هو جبهة الإسناد هذه الكتابة عنها توثيق يومياتنا في ظلها الثقيل المظلم والتحريض على نجدة ناسها محاولة تثبيت أسمائهم وقصصهم كتابة وهذا بالطبع أضعف الإيمان لكن هل كنت فعلا أعيش حياة طبيعية تبرر كل هذا الشعور بالذنب لدى تناولي الطعام الذي أريد لدى تمتعي بما أشاء من المياه للشرب أو لدى استحمامي لدى زيارتي للطبيب المناسب عندما أمرض وتناولي الدواء الموصوف لي لدى زيارة البحر أو الجبل والاستمتاع بفنجان القهوة الصباحي في منزلي لا لم أكن كذلك وما الغصة تلك إلا لأني لم أكن متنبهة إلى أني كنت أعيش بالفعل الحرب ولو بدرجات أقل مباشرة وعنفا وليس الحياة الطبيعية فهذه الأخيرة نسيتها رويدا رويدا أو بالأحرى اعتدت غيابها بالتدريج ومنذ سنوات منذ ما قبل السابع من أكتوبر تشرين الأول الماضي نحن كما تلك الضفادع التي وضعت في إناء بارد فاطمأنت ثم أوقدت تحتنا نار هادئة وبتنا نسلق شيئا فشيئا تسلب منا حياتنا دون أن نحس تماما بذلك لبنان في وهم الحياة الطبيعية نحن في حرب لم نعد نراها غير طبيعية أصبحت الحياة في الحرب هي الطبيعية في لبنان نحن في حرب لم نعد نراها غير طبيعية أصبحت الحياة في الحرب هي الطبيعية في لبنان لا أحد يعتاد الحرب من قال ذلك يعتادها إلا إن كان يملك خيارات أخرى فيفر إليها فهل نملك خيارات أخرى نحن والفلسطينيون وسائر شعوب المنطقة فرضت علينا إسرائيل زرعت بثرة في وجه منطقتنا التي كانت تأمل بالخروج من قرون التخلف إلى نهضة حلمت بها فإذ بها مكبلة بتمزيق خريطتها وأهلها أشلاء كيانات وهمية السيادة ومشوشة الهوية بين القومي والديني لا يفصل بينها ما هو منطقي أو طبيعي من حدود كيانات تتحدث لغة واحدة تحلم بلغة واحدة تمازح تتشاجر تنشد الشعر وتغني باللغة نفسها لكنها غير قادرة على التلاقي لمصلحتها الواحدة أو حتى لمجرد الدفاع عن نفسها انظروا إلى الاتحاد الأوروبي ما أن تخرج من حدود أحد بلدانه حتى تصبح في فضاء لغة أخرى عادات أخرى قيم أخرى أما نحن نستطيع أن نمشي من لبنان إلى السعودية من اليمن إلى فلسطين متحدثين لغة واحدة مدركين أن تاريخنا قيمنا أساطيرنا موائدنا حتى متشابهة لكننا لا نستطيع أن نتوحد تاريخنا قيمنا أساطيرنا موائدنا حتى متشابهة لكننا لا نستطيع أن نتوحد هل هذا جلد للذات أبدا فالحقيقة ثابتة ومن الهين إدراكها ولقد ذكرني بذلك البرنامج الصباحي على إحدى قنوات التلفزيون الفرنسي ففي حين كانت أخبار الصباح عندنا هي أخبار الغارات الإسرائيلية على مناطق متفرقة في لبنان والغارات المضادة على ما يماثلها عمقا في الكيان أسماء الشهداء المدنيين الذين راحوا ضحية قصف المسيرات المتسللة إلى سمائنا دون استطاعتنا ردعها بسلاح جو ممنوع علينا منذ القدم عن الجيش اللبناني النظامي أقصد أخبار عن محاولات تسريب مسودة تفاهم بريطانية مع لبنان تسمح للجيوش البريطانية بالانتشار على أراضينا دون رقيب عن انقطاع الإنترنت بالدور عن هذه المنطقة أو تلك عن وصول باخرة الفيول الجزائرية لنجدتنا من العتمة الشاملة وأنباء عن تفريغ حمولتها الغامض المصير في هذا الوقت كان التلفزيون الفرنسي الصباحي يخصص فقراته لأخبار الموضة الشتوية الجديدة أو لانخفاض الاستهلاك بالرغم من حلول موسم التنزيلات لإعادة اكتشاف بودرة قديمة بإمكانها أن تقتل عث السرير الذي عانى منه أخيرا الفرنسيون أو للتأسف لخبر إقفال كباريه شهير للمتحولين جنسيا بسبب الإفلاس ثم خبر آخر بمناسبة اقتراب موسم المدارس عن عودة المراويل لتلامذة الصفوف الصغار وتمويل البلديات لتلك المراييل والنقاش حول ذلك ثم حوار حول وجوب منع التلفونات بأيدي الأولاد إلخ نعم هذه أخبار الحياة الطبيعية وهذه ليست حياتنا نحن محاصرون ماليا واقتصاديا واجتماعيا منذ سنوات وسنوات بأدوات الفساد والعقوبات الدولية والضغوط من الأقوى وداخليا بالمذهبية والتنمر وتشتت الهويات لسنا أغبياء لكننا لا نملك ما يجعلنا قادرين على مقاومة كل ذلك التنمر من أقوياء العالم وكل منا مشغول بتدبير الحد الأدنى للعيش كيف اعتدنا كل ذلك لأنه لا خيار من لديه خيار اختاره وهو لم يعد بيننا حمل جنسية أخرى وأصبح من فئة المغتربين الذين شيد لأجلهم ولتقديسهم تمثال المغترب الوحيد الذي لم يتحطم ويتطاير عندما انفجر مرفأ بيروت ذات آب أغسطس بالرغم من أنه ملاصق تماما لمكان الانفجار لا نملك ما يجعلنا قادرين على مقاومة كل ذلك التنمر من أقوياء العالم وكل منا مشغول بتدبير الحد الأدنى للعيش مغتربون نحتفي بعودتهم كل صيف إلى حياتنا غير الطبيعية يعودون ضاحكين ومتواطئين على هذه العادة التي تتغنى بها التلفزيونات المحلية إصرارهم على العودة إلى الوطن كل عام على الرغم من كل شيء أو أي شيء الحرب الغلاء العتمة الشاملة الوباء الانهيار الاقتصادي الإفلاس يعودون هم الذين هاجروا من الحياة غير الطبيعية إلى بلاد أخرى أصبحوا فيها مهاجرين أو مواطنين درجة ثانية يعودون ليكونوا مواطنين درجة أولى بما يحملون من عملة صعبة يقال إنها تغذي الاقتصاد وتنعشه لكنها في الحقيقة تغذي النظام الزومبي وتعينه على البقاء مثل الكونت الشهير مصاص الدماء دراكولا يعودون ليروا في عيون من تبقوا هنا أنهم كانوا على حق وأنهم قد نجوا وليتزودوا بالقدرة على تحمل ما يقاسونه من صعاب في بلادهم الجديدة يعودوا ليصدقوا أنهم قد تحولوا بهجرتهم وجنسيتهم الجديدة مثالا وحلما لمن لم يتمكنوا من الاختيار ولبثوا على مضض في بلادهم المريضة يحلمون بجنسية أخرى تمكنهم وأولادهم من عيش حياة طبيعية ولو كمواطنين من درجة ثانية أو ثالثة على أن يعودوا مثلهم في كل صيف ليكونوا مواطنين درجة أولى في بلادهم ولو سحابة صيف

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2025 يمن فايب | تصميم سعد باصالح