الجمعية العامة وإدانة الثقافة التي تمجد الإبادة الجماعية
١٦ مشاهدة
كان الثالث والعشرون من أيار مايو الجاري يوما مشهودا نظرا لما سبقه في الأسابيع الأخيرة من محاولات محمومة لإغراء أو ابتزاز دول للتصويت سواء مع القرار أو ضده وما لحقه من تعليقات مؤيدة ومعارضة لدول لديها حساسيات من تعبير الإبادة الجماعية في الوقت الذي تحدث فيه إبادة جماعية على الأرض في غزة تجاوز عدد ضحاياها ما خسرته بلدة سربرنيتسا مع توثيق ذلك بالصوت والصورة على عكس سربرنيتسا التي حرمت من هذا الامتياز كان يفترض أن يجري التصويت في الثالث من أيار مايو ولكنه تأجل لإتاحة المجال أكثر لبعض التعديلات على مشروع القرار وإجراء المزيد من الضغوط على الدول المترددة على خانات التصويت لأجل هذا القرار المستعجل الذي يدعو إلى اعتبار يوم 13 تموز يوليو يوما عالميا لتأمل وتذكر الإبادة الجماعية في سربرنيتسا عام 1995 ربما كان من المتوقع أن يطبخ هذا القرار على نار هادئة لكي يمرر في 2025 لمناسبة الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية في سربرنيتسا ولكن كان من الملاحظ أن بعض الدول استعجلت إقراره لأسباب معينة وهو ما أثار معركة محمومة من جانب صربيا الرسمية المستهدفة التي استخدمت كل علاقاتها لإفشال التصويت على مشروع القرار ومن ذلك وصول الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش ووزير الخارجية ماركو جوريتش في وقت مبكر إلى نيويورك لممارسة أكبر قدر من العلاقات العامة مع ممثلي الدول الأعضاء في الجمعية العامة في الوقت الذي تحدث فيه إبادة جماعية على الأرض في غزة كان الرئيس فوتيتش متشحا بالعلم الصربي خلال جلسة التصويت لكونه جاء مدافعا عن الشعب الصربي المتهم بالإبادة الجماعية وهو ما لم يرد في مشروع القرار المعروض للتصويت واعتبر نتيجة التصويت انتصارا أخلاقيا لصربيا نظرا لكون ثلثي الإنسانية لم تصوت للقرار أو امتنعت عن التصويت وهو ما جعل الصحافة الصربية داناس وغيرها تقارنه بالرئيس السابق سلوبودان ميلوشيفيتش الذي كان يحول الهزائم إلى انتصارات وفي الحقيقة كان لدينا ما يلفت النظر في تشتت الأصوات بين أربعة خيارات فقد صوتت لصالح القرار 84 دولة وعارضته 19 دولة معروفة بسجلها في انتهاك حقوق الإنسان مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية وسورية وكوبا ونيكاراغوا وغيرها بينما امتنعت عن التصويت 68 دولة وغابت 23 دولة عن جلسة التصويت تفاديا للإحراج وعلى رأسها إسرائيل ومن المفهوم أن الدول الممتنعة عن التصويت ليست معارضة لمضمون القرار ولكن كانت لها تحفظات تتعلق بعدم إشراكها في المبادرة منذ البداية وصفة الاستعجال الذي اتسمت به أو لديها مصالح خاصة معلنة وغير معلنة مع صربيا ولكن كان من الصعب تفهم موقف بعض الدول العربية والإسلامية فإيران صوتت للقرار ولكن لبنان والجزائر امتنعا عن التصويت بينما غاب المغرب عن جلسة التصويت وغير ذلك من المفارقات إدانة الأفراد وليس الشعوب والإثنيات نظرا إلى أن القرار الذي فاز بالأغلبية لاختيار 13 تموز يوليو يوما عالميا لتأمل وتذكر الإبادة الجماعية في سربرنيتسا 1995 لم يأت بجديد بتأكيده على أن ما حصل إبادة جماعية لأن هذا حسمته سابقا محكمة جنايات الحرب في يوغسلافيا السابقة التي أصدرت أحكاما بالمؤبد على المسؤولين عن هذه الجريمة كالجنرال راتكو ملاديتش وغيره بل إنه أكد بذلك أن القرار لا يشمل شعبا أو إثنية أي الشعب الصربي في جمهورية صربيا أو إثنية الصرب في جمهورية البوسنة والجبل الأسود وإنما المسؤولين العسكريين وشبه العسكريين والسياسيين الذين اتهموا وأدينوا لمشاركتهم في الإبادة الجماعية في سربرنيتسا في الوقت الذي تحدث فيه إبادة جماعية على الأرض في غزة ولكن الجديد هنا التأكيد في مشروع القرار على إدانة الإنكار للإبادة الجماعية والدعوة إلى تثقيف الجيل الجديد بما حدث من خلال الكتب المدرسية لكي لا تكون هناك ثقافة مجتمعية تسمح بتكرار إبادات جماعية أخرى ماذا وراء الاستعجال لإصدار القرار كانت هناك مؤشرات متزايدة للقلق إزاء ما يحدث في صربيا خلال السنوات الأخيرة لإعادة الاعتبار لمجرمي الحرب المسؤولين عن الإبادة الجماعية في سربرنيتسا وعلى رأسهم الجنرال راتكو ملاديتش قائد قوات جمهورية الصرب في البوسنة خلال 1992 1995 الذي كان على صلة وثيقة بالمسؤولين السابقين والحاليين في صربيا ومع أن صربيا كانت دولة منبوذة حتى آخر أيام حكم سلوبودان ميلوشيفيتش الذي كشف تزويره للانتخابات عام 2000 عن انتفاضة أدت إلى انسحابه من الحياة السياسية ووصول المعارضة إلى الحكم والتي تطلعت إلى إخراج صربيا من عزلتها وانفتاحها على الاتحاد الأوروبي ولكن رئيس الحكومة زوران جينجيتش الذي تجرأ على تسليم ميلوسيفتيش لمحكمة جرائم الحرب في لاهاي في حزيران يونيو 2001 تعرض للاغتيال من أجهزة الدولة العميقة في 12 آذار مارس 2003 وأطلق اسمه على الشارع الذي اغتيل فيه ولكن بعض شخصيات عهد ميلوشيفيتش ومنهم الرئيس الحالي ألكسندر فوشتيتش الذي تولى وزارة الإعلام في عهده عادوا إلى الحكم مستفيدين من الظروف الإقليمية الجديدة بعد 2014 لتعزيز شعبويتهم بواسطة الكنيسة والعلاقة التاريخية مع روسيا وهكذا بعد سنوات الحماسة للاندماج في الاتحاد الأوربي بعد أن أصبحت صربيا دولة مرشحة ونالت مليارات الدولارات من المنح والقروض من بروكسل بدأ الرئيس فوتشيتش سياسة شعبوية تركز على دور الكنيسة والصداقة التاريخية مع روسيا ورفض تطبيق العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا بعد غزوها أوكرانيا كما تحفظ على دعم السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي وقام بانفتاح جديد على الصين أدى إلى زيارة تاريخية للرئيس الصيني إلى بلغراد في أيار مايو الجاري وتوقيع 24 اتفاقية للتعاون في مختلف المجالات ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة مع سيطرة النظام على معظم وسائل الإعلام أن تتراجع نسبة التأييد للاندماج في الاتحاد الأوروبي إلى ما دون 50 وأن تزداد نسبة المؤيدين للعلاقة التاريخية مع روسيا ثقافة جديدة تعيد الاعتبار إلى مجرمي الحرب كان ما يثير القلق في هذه التغيرات والتوجهات إعادة الاعتبار إلى مجرمي الحرب الذين أدينوا في لاهاي لمسؤوليتهم عن الإبادة الجماعية في سربرنيتسا وغيرها حيث أصبحوا يعاملون كأبطال قوميين وفي هذا السياق برزت فجأة جدارية كبيرة في أحد شوارع بلغراد للجنرال راتكو ملاديتش ولما قامت الناشطة عايدة كوروفيتش برمي الجدارية بالبيض احتجاجا اعتقلت ووضعت حماية للجدارية على مدى النهار والليل وفي هذا السياق مع تصعيد التجييش القومي صادق برلمان جمهورية الصرب في البوسنة والهرسك في 18 نيسان إبريل الماضي على تقرير يرفض اعتبار ما حدث في سربرنيتسا إبادة جماعية كما وصفته محكمة الجنايات في لاهاي وأدانت على أساسه الجنرال راتكو ملاديتش وغيره وبعبارة أخرى كانت هذه التطورات المتسارعة الذي أصبحت تؤشر إلى ترسخ ثقافة قومية جديدة تمجد الجنرال راتكو ملاديتش وغيره باعتبارهم أبطالا قوميين وليسوا مجرمي حرب وتمتد عبر حدود صربيا إلى المناطق المجاورة البوسنة والجبل الأسود وكوسوفو لتروج لمشروع العالم الصربي الذي هو اسم آخر لمشروع صربيا الكبرى الذي روج له ميلوشيفيتش وقاد إلى سلسلة الحروب التي عصفت بيوغسلافيا السابقة ولكن الوعي الإقليمي الدولي بمخاطر ذلك كان سباقا ولذلك فقد صوتت كل دول البلقان إلى جانب القرار في الجمعية العامة بما في ذلك جمهورية الجبل الأسود التي يشكل الصرب حوالي 30 من سكانها كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري وعضو أكاديمية العلوم والفنون في جمهورية البوسنة والهرسك