ولدت الوحشية الإسرائيلية في الحرب الدموية والمدمرة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة موجة كبيرة من التعاطف في الأوساط الغربية مع ضحايا هذا العدوان رغم التعاطف الكبير الذي لقيته إسرائيل من الرأي العام الغربي بعد هجوم طوفان الأقصى مباشرة في 7 أكتوبر تشرين الأول المنصرم فقد أعادت الوحشية الإسرائيلية من قتل انتقامي للفلسطينيين وتدمير هائل لمباني قطاع غزة الصراع إلى أساسه المكون رغم إدانة قتل المدنيين الإسرائيليين في الهجوم ولم تلغ هذه الإدانة أساس الصراع ولا تعكس الحقائق بتحول الضحية إلى جلاد والجلاد إلى ضحية فالجريمة المؤسسة لهذا الصراع سابقة على الهجوم بعقود طويلة وتعود إلى تأسيس دولة إسرائيل على حساب الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم ورفض إسرائيل أي حل يسمح للفلسطينيين بتقرير مصيرهم في دولة مستقلة على الأراضي المحتلة تختلف موجة تعاطف الرأي العام الغربي الجديدة عن التي حصلت في حروب ومجازر سابقة خصوصا حرب اجتياح لبنان في عام 1982 ليس لاختلاف الظروف الدولية التي كانت في تلك الأيام عن السائدة اليوم حين كان العالم منقسما إلى معسكرين ويخوض حربا باردة بين قطبيه تشعل الحرائق الإقليمية هنا وهناك في أماكن النزاعات في العالم ولكن بعيدا عن صدام القطبين اللذين لا يملكان أسلحة نووية قادرة على تدمير العالم عشرات المرات فحسب بل تختلف في القوى والمؤسسات والقطاعات الشعبية التي شكلت الأساس لهذا التضامن أيضا ففي وقت شكلت الأحزاب اليسارية والمؤسسات القريبة منها القوى الأساسية في التضامن مع الفلسطينيين في الماضي نرى أن تلك التي تتضامن من الفلسطينيين اليوم قوى مختلفة من حيث هي قوى سياسية واجتماعية الواقع الرسمي للوضع الدولي بات أسوأ للفلسطينيين من ذلك الواقع الذي كان قائما في أثناء الحرب الباردة لا يقوم التضامن مع الفلسطينيين اليوم على أساس من الانقسام السياسي الذي كان سائدا أيام الحرب الباردة ولا على الأسس نفسها التي قام عليها فقد تغير العالم بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكك عالم القطبين ولد واقع جديد وأسس مختلفة للتضامنات خصوصا في الأوساط الشعبية لأن الواقع الرسمي للوضع الدولي بات أسوأ للفلسطينيين من ذلك الواقع الذي كان قائما في أثناء الحرب الباردة لذلك لم يشكل العدوان الإسرائيلي حالة استقطاب أوروبية على خلفية انقسام دولي قائم إنما جاء هذه المرة على خلفية انقسامات داخلية للدول ذاتها وتم توظيف معطيات العدوان واستغلالها لأهداف تتعلق بالسياسات الداخلية خصوصا من اليمين العنصري والشعبوي الذي شهد ويشهد مدا كبيرا في هذه البلدان لتعزيز خطابه المعادي للاجئين إذ يعتبرهم يحملون معهم خطر الإرهاب للمجتمعات الغربية ويهدفون إلى تغيير قيم المجتمع الغربي فالقضية الملحة كما تجلت في السنوات الأخيرة قضية اللاجئين بوصفها أساس كل الأزمات الغربية وتحميلهم كل المصائب التي تعيشها هذه البلدان لذلك ليس الاستقطاب الذي كشفه العدوان بين يسار ويمين مستندا إلى استقطاب دولي بل هو استقطاب قائم على خلفية مشكلة اللاجئين التي يعتبرها اليمين المتطرف والعنصري في العالم الغربي معركته الأكبر لحماية مستقبل هذه البلدان من تغيرات ديمغرافية غير مرغوبة فالاستقطاب القائم بشأن الحرب في غزة هو بين مواطنين لاجئين ومن هم متضامنون معهم وعلى الأغلب هم من الفئات الأكثر ضعفا في هذه البلدان مقابل مواطنين أصليين معادين للاجئين لذلك نجد أن الأغلبية الكبرى من المتضامنين الأوروبيين مع الفلسطينيين أوروبيون من أصول لاجئة في المقابل نجد سياسات حادة من الأحزاب اليمينية والعنصرية الصاعدة في مواجهة اللاجئين وتبين ذلك بشكل فاضح في الاجتماع الذي عقده قبل أشهر حزب البديل اليميني الألماني مع قوى عنصرية وأصحاب مال للبحث عن مشاريع لترحيل اللاجئين في ألمانيا حتى أولئك الذين حصلوا على الجنسية الألمانية لا يقوم التضامن مع الفلسطينيين اليوم على أساس من الانقسام السياسي الذي كان أيام الحرب الباردة ولا على الأسس نفسها التي قام عليها كما لا يصح الحديث عن استقطاب يسار ـ يمين في أوروبا بعد تحطم الأحزاب الكبرى خلال العقود التي تلت انهيار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات وتذرر الخريطة السياسية الأوروبية ما أفقد البلدان الأوروبية أحزابها الكبرى سواء أحزاب يسارية أم أحزاب يمين الوسط فلم يعد هناك صدى في هذه المجتمعات للسرديات الكبرى بشأن مستقبل هذه البلدان سواء سرديات يمينية أو يسارية وتقدم خطاب المخاطر والكراهية للاجئين على حساب كل السرديات الكبرى والذي ترافق مع صعود يمين شعبوي وعنصري في جميع الدول الأوروبية تقريبا والشعار واحد خطر اللاجئين جاءت الحرب على غزة لتعزيز هذا الخطاب الذي لا يخدمه تكرارا خطابه العنصري تجاه اليهود بل تسويقه عبر توظيف إسرائيل لخدمة خطابهم المعادي للاجئين وتحديدا المسلمين بوصفهم خطرا مشتركا على إسرائيل وعلى الدول الأوروبية من خلال تصوير ما جرى محض إرهاب من قوى إسلامية محاولة القول إن هذا مصير المستقبل الأوروبي مع اللاجئين المسلمين الذين يشكلون الكتلة الأساسية من موجات اللجوء في العقدين الأخيرين ما يجعل القوى العنصرية تحاول الاندماج في سردية المظلومية الإسرائيلية مع كرههم الشديد لليهود الذي لا يقل عن كرههم المسلمين فجل هذه الأحزاب قادم من أصول أحزاب نازية لذلك ليس غريبا أن يشكل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة اليوم تظهيرا في الخريطة السياسية الأوروبية لقضية المهمشين في هذه البلدان قضية الظلم المغطى بانتقام الضحية حسب الميديا الأوروبية في وقت تعمل القوى السياسية في أوروبا على التراجع عن حقوق الإنسان التي أقرتها هذه الدول بعد كوارث الحرب العالمية الثانية مستهدفة اللاجئين وقضايا الشعوب التي جاؤوا منها وبذلك تصبح القضايا الخارجية من هذا النوع قضايا صراع داخلي