التقشف الحاد ليس حلا مستداما في لبنان

٢٩ مشاهدة
يوم الأربعاء الماضي أعلن الموظفون الفنيون في المديرية العامة للطيران المدني في لبنان عزمهم على التوقف التام عن القيام بالأعمال الليلية ابتداء من بداية شهر آب أغسطس المقبل احتجاجا على حرمانهم من المخصصات المالية الإضافية التي يستفيد منها الموظفون في الإدارات العامة مع الإشارة إلى أن هذه المخصصات تمثل التعويض الأهم الذي يستفيد منه موظفو القطاع العام بعد تدهور قيمة أجورهم جراء خسارة الليرة اللبنانية أكثر من 98 من قيمتها منذ أواخر العام 2019 وخلال الأيام القليلة التي سبقت هذا الخبر شهد مطار بيروت الدولي انقطاعات مفاجئة في التيار الكهربائي جراء شح الفيول في معامل مؤسسة كهرباء لبنان التي تعتمد المرافق العامة على تغذيتها وهذا ما فرض لجوء إدارة المطار إلى خطط الطوارئ للتمكن من القيام بالعمليات التشغيلية الطبيعية وعلى النحو نفسه طلبت مؤسسة مياه لبنان الجنوبي من المستهلكين الاستعداد لتقنين خدماتها بسبب انقطاع الكهرباء اللازمة لتشغيل معدات الضخ وجميع هذه الأحداث تزامنت مع تحذير هيئة أوجيرو اليد التنفيذية لوزارة الاتصالات من اتجاهها للتوقف التدريجي لأعمال الصيانة والتشغيل للشبكة الوطنية التي تقدم خدمات الإنترنت والاتصالات الأرضية وجاءت هذه التحذيرات على خلفية نفاد الأموال وعدم تمكن الهيئة من استلام الأموال المقرة لها في الموازنة بسبب تعقيدات بيروقراطية في الإدارة العامة كما فسر المشكلة المدير العام للهيئة عماد كريدية جميع هذه المظاهر التي طرأت معا خلال فترة لم تتجاوز الأسبوع باتت تعبر عن الواقع المأساوي الذي تعيشه اليوم جميع الإدارات والمؤسسات العامة اللبنانية بما فيها المرافق التي تؤدي الوظائف الأكثر حساسية كالمطار أو مؤسسات المياه وبطبيعة الحال اتسمت هذه التطورات بخطورة استثنائية لتزامنها مع الأحداث العسكرية التي يشهدها جنوب لبنان والتي تثير المخاوف من إمكانية اتساع نطاق المواجهات إذ في مثل هذه الظروف المتوترة تزيد أهمية تحصين الجبهة الداخلية لضمان استمرارية الخدمات الحيوية والبديهية العامل الأساسي والمشترك خلف جميع هذه الأحداث هو شح الاعتمادات والسيولة المخصصة لتمويل الإنفاق العام وخصوصا بالعملة الصعبة وهذا ما يفسر عدم قدرة مؤسسة الكهرباء على شراء الفيول اللازم لتشغيل المعامل بكامل طاقتها وعدم توفر التمويل المطلوب لصيانة شبكات الاتصالات أو دفع الحوافز لموظفي بعض الإدارات الرسمية وعلى هذا الأساس بات ترهل الإدارات الرسمية وشللها ومن ثم تردي نوعية الخدمات إلى أقصى حدود السمة الأساسية للمرحلة الراهنة اللافت للنظر هو أن الخزينة اللبنانية وبخلاف الشائع لا تنقصها حاليا الموارد المالية لتشغيل مرافقها العامة فلغاية منتصف شهر تموز يوليو الحالي بلغ رصيد حسابات القطاع العام لدى المصرف المركزي ما يقارب الـ 5 16 مليارات دولار أميركي وهو ما يوازي الـ 1 6 ضعف حجم النفقات المقررة ضمن موازنة العام الحالي أما أهم ما في الأمر فهو أن هذا الرصيد بات يتزايد بشكل مطرد وهو ما أدى إلى ارتفاعه بقيمة 840 مليون دولار أميركي منذ منتصف شباط فبراير الماضي بصورة أوضح ثمة سياسة تقشفية حادة متفق عليها بين المصرف المركزي ووزارة المالية بما يؤدي إلى احتجاز وتراكم الإيرادات العامة في حسابات الدولة بدل تمويل الحاجات الملحة والداهمة وهذا ما يتكامل أساسا مع طبيعة الموازنة التي تم إقرارها هذا العام والتي بالغت في تقليص سقوف الاعتمادات الممنوحة للإنفاق العام كما أفرطت في تخفيض حجم الإيرادات المتوقعة وبشكل غير علمي لتبرير السياسة التقشفية ثمة أهداف واضحة لهذه السياسة المالية المتشددة المتبعة اليوم فاحتجاز الإيرادات العامة التي يجري تحصيلها بالليرة اللبنانية يسمح للمصرف المركزي بامتصاص جزء كبير من الكتلة النقدية المتداولة بالعملة المحلية وهذا ما يسمح للمصرف المركزي باستعمال الجزء الأكبر من هذه الليرات لشراء العملة الصعبة من السوق الموازية وزيادة احتياطاته بالعملات الأجنبية من دون الاضطرار لطبع أو خلق المزيد من النقد بالعملة المحلية في نتيجة العملية وفي مقابل الإيرادات التي جرى احتجازها في المصرف المركزي ارتفعت احتياطات المصرف بالعملات الأجنبية بنحو 818 مليون دولار أميركي منذ منتصف شباط فبراير وبطبيعة الحال لم تشهد الكتلة النقدية المتداولة بالعملة المحلية أي تضخم يمكن أن يضر بسعر صرف الليرة اللبنانية كون المصرف لم يلجأ لخلق أي ليرات جديدة خلال هذه العملية بل على العكس تماما كان المصرف المركزي يضبط الكتلة النقدية بالعملة المحلية من خلال عملية تحصيل الضرائب واحتجازها وبهذا الشكل حقق المصرف المركزي هدفين متوازيين إعادة تعويم احتياطاته وزيادة ملاءته عبر شراء الدولارات وتحقيق الاستقرار النقدي عبر ضبط حجم الكتلة النقدية المتداولة بالعملة المحلية غير أن تحقيق هذه الأهداف النقدية جرى طبعا على حساب السياسة المالية للدولة أي على حساب التقشف غير الطبيعي في الإنفاق العام وبهذه الصورة تم تحميل الكلفة النهائية لفعالية المرافق والإدارات العامة ولنوعية الخدمات التي تقدمها تتعدد التحليلات التي تحاول تفسير سبب سعي المصرف المركزي بالاتفاق مع وزارة المالية لمراكمة الاحتياطات وزيادتها على هذا النحو بمعزل عن أثر هذه السياسة على مالية الدولة ثمة بعض الآراء التي تعتبر أن المصرف والحكومة يحاولان معا خلق كتلة جديدة من الاحتياطات المالية التي تسمح بالدفاع عن الاستقرار الاقتصادي في المستقبل في حال فشل مسار التفاهم مع صندوق النقد الدولي أو في حال عجزت الدولة عن العودة إلى أسواق الدين الدولية وفي الوقت نفسه ثمة ما يشير إلى أن المصرف المركزي يحاول زيادة حجم احتياطات العملة الأجنبية التي يمكن استخدامها في المستقبل للتدخل في سوق القطع والحفاظ على استقرار سعر صرف العملة المحلية كما يبدو أن المصرف يحاول إرساء تجربة تمكنه من زيادة ملاءته بشكل متدرج على أمل الارتكاز على هذا النموذج في المستقبل لوضع حل يسمح بإطفاء الخسائر المتركمة في ميزانية مصرف لبنان ولو على مدى فترة زمنية طويلة بمعزل عن خلفيات هذه السياسة النقدية من المهم الإشارة إلى أن التقشف الحاد الذي يعتمد على تحصيل واحتجاز الإيرادات العامة لا يمكن أن يؤسس لحل مستدام على المدى البعيد فوظيفة الدولة الأولى ليست مراكمة الاحتياطات بهذا الشكل بل الإنفاق على الخدمات العامة البديهية التي يحتاجها المجتمع وضمان وجود شبكات الحماية الاجتماعية التي تحتاجها الفئات الأكثر هشاشة أما غياب هذا الدور واعتماد المواطنين على القدرات الذاتية لتأمين الخدمات الأساسية فسيزيد من حدة التفاوتات الاجتماعية بين شرائح المجتمع في المقابل على مصرف لبنان معالجة خسائره وخسائر المصارف التجارية عبر عملية إعادة الهيكلة المصرفية الشاملة التي لم تبصر النور بعد رغم مرور نحو خمس سنوات على حصول الأزمة المالية وهذا ما يمكن أن يؤسس لسياسة نقدية مستدامة ومستقرة من دون تحميل الكلفة لمالية الدولة العامة أو لعموم المقيمين الذين يعتمدون على الدور الذي تلعبه الدولة

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح