شهدت بريطانيا في 4 تموز يوليو 2024 انتخابات عامة مبكرة دعا إليها في 22 أيار مايو الماضي رئيس الوزراء زعيم حزب المحافظين السابق ريشي سوناك تجنبا لمحاولة إطاحته من داخل حزبه بعد أدائه المتواضع الذي أفقد الرأي العام البريطاني الثقة كليا بحكم المحافظين المستمر منذ عام 2010 وقد شهد عهد المحافظين الطويل استفتاءين مهمين الأول على استقلال إسكتلندا في حين أسفر الثاني عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بريكست إلى جانب سلسلة من الأزمات أبرزها تفشي وباء فيروس كورونا المستجد كوفيد 19 والحرب في أوكرانيا إضافة إلى مجموعة من الأحداث المثيرة للجدل التي اهتزت على وقعها حكومة المحافظين والتي يرقى بعضها إلى مستوى الفضائح في عهد رئيسي الوزراء السابقين بوريس جونسون وليز تراوس وصولا إلى سوناك الذي شهدت بريطانيا في عهده أسوأ أزمة تضخم مالي منذ عقود وقد جاءت نتائج الانتخابات متوافقة مع التوقعات إذ فاز حزب العمال بأغلبية ساحقة 411 مقعدا من أصل 650 مقعدا في حين مني المحافظون بأسوأ هزيمة في تاريخهم النتائج وتوزيع المقاعد كان إعلان سوناك عن إجراء انتخابات عامة مفاجئا للشارع وللأوساط السياسية والاقتصادية في بريطانيا وحتى للمحافظين أنفسهم فلم يكن الوقت كافيا للاستعداد لحملة انتخابية صعبة في ضوء الخسارة الكبيرة التي مني بها المحافظون في الانتخابات المحلية التي جرت في 2 أيار مايو الماضي ويبدو أن تفاقم الصراعات داخل حزبه والتي أدت إلى تغيير أربعة رؤساء حكومة في ثلاث سنوات دفعته إلى الهروب إلى الأمام وتقديم موعد الانتخابات بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات نحو 60 وهي الأقل منذ عام 2001 59 4 فاز فيها حزب العمال بأغلبية ساحقة بحصوله على 411 مقعدا بزيادة 209 مقاعد على إجمالي المقاعد التي حصل عليها في انتخابات عام 2019 في حين حصل المحافظون على 121 مقعدا بخسارة 244 مقعدا في واحدة من أسوأ النتائج لهم منذ أكثر من قرن وتعد نتائج العمال الأفضل منذ عام 1997 عندما فاز رئيس الوزراء الأسبق توني بلير بـ 417 مقعدا وحصل الديمقراطيون الليبراليون على 72 مقعدا مقارنة بـ 11 مقعدا في انتخابات 2019 بينما تراجعت مقاعد الحزب الوطني الإسكتلندي إلى تسعة مقاعد بخسارته 39 مقعدا ودخل حزب الإصلاح اليميني المتطرف بزعامة نايجل فراج البرلمان أول مرة بحصوله على خمسة مقاعد أقل مما توقعت الاستطلاعات في حين فاز حزب الخضر في إنكلترا وويلز بـأربعة مقاعد ينظر الشكل الشكل يوضح توزيع المقاعد في الانتخابات العامة البريطانية 2024 المصدر Carl Baker General Election 2024 Results UK Parliament 5 7 2024 accessed on 6 7 2024 at https n9 cl xkg9z4 أسفرت الانتخابات عن حصول حزبي العمال والمحافظين على أدنى حصة مجتمعة من الأصوات منذ عام 1945 في مؤشر على ترهل النظام الانتخابي التقليدي في بريطانيا القائم على الثنائية الحزبية كان لافتا للانتباه أنه على الرغم من حصول العمال على أغلبية مطلقة من المقاعد فإن نسبة الأصوات التي فازوا بها لم تتجاوز 34 من مجموع المقترعين لأن النظام الانتخابي البريطاني يقوم على مبدأ أن الفائز يحصل على كل شيء Winner Takes All وتقارب هذه النسبة ما حصل عليه العمال في عهد زعيمهم السابق جيرمي كوربن عام 2019 وتعد الفجوة بين حصة العمال من إجمالي الأصوات وحصتهم من المقاعد البرلمانية التي فازوا بها الأكثر تفاوتا من بين جميع الانتخابات منذ عام 1918 ومع أن فوز العمال بـ 411 مقعدا يضمن لهم أغلبية برلمانية قوية تسمح لهم بتمرير أجندتهم في البرلمان من دون صعوبات فإن تدني نسبة الأصوات التي حصلوا عليها تجعل حصة حكومة الحزب من الأصوات هي الأدنى التي حصلت عليها أي حكومة أغلبية من حزب واحد في تاريخ المملكة المتحدة إذ توزعت الأصوات على بقية الأحزاب وشهدت الأحزاب الصغيرة والمرشحون المستقلون ارتفاعا كبيرا في دعمهم الشعبي الجدول 1 الجدول 1 حصة الأحزاب من أصوات المقترعين مقارنة بحصتهم من المقاعد في البرلمان في المئة الحصة من المقاعد الحصة من الأصوات الحزب 63 34 العمال 19 24 المحافظون 1 14 حزب إصلاح المملكة المتحدة 11 12 الديمقراطيون الليبراليون 1 7 الخضر 1 3 الحزب الوطني الإسكتلندي 1 1 الحزب الديمقراطي الاتحادي 1 1 بلايد كيمرو 1 1 شين فين 1 3 آخرون المصدر Ben Chu Biggest ever Gap between Number of Votes and MPs Hits Reform and Greens BBC 5 7 2024 accessed on 6 7 2024 at https n9 cl yq4hs وقد حقق الديمقراطيون الليبراليون وحزبا الإصلاح والخضر تقدما لافتا فقد حصل الحزب الثالث تقليديا في بريطانيا الديمقراطيون الليبراليون على زيادة كبيرة في عدد المقاعد فارتفعت حصته من 11 مقعدا فقط فاز بها في الانتخابات العامة عام 2019 إلى 72 مقعدا وفاز حزب الإصلاح اليميني المتطرف بـخمسة مقاعد ودخل البرلمان أول مرة لكنه حصل في المقابل على 14 من أصوات الناخبين ما جعله ثالث أكبر حزب من حيث الكتلة الناخبة بعد العمال والمحافظين وقبل الديمقراطيين الليبراليين وقد أدى ذلك إلى تقسيم أصوات اليمين وساهم في خسارة المحافظين أما في إسكتلندا فقد مني الحزب الوطني الإسكتلندي بخسارة كبيرة إذ انخفض عدد مقاعده إلى تسعة فقط من 48 مقعدا في عام 2019 نتيجة مجموعة من الفضائح التي ألمت به في الفترة الأخيرة وأصبح حزب شين فين أكبر حزب في إيرلندا الشمالية حيث فاز بسبعة مقاعد من أصل 18 مقعدا مخصصة لإيرلندا الشمالية الجدول 2 الجدول 2 تغير عدد مقاعد الأحزاب في الانتخابات العامة 2024 مقارنة بانتخابات 2019 الفرق في عدد المقاعد الحزب 209 العمال 244 المحافظون 61 الديمقراطيون الليبراليون 39 الحزب الوطني الإسكتلندي لا تغيير شين فين 6 المستقلون 3 الحزب الديمقراطي الاتحادي 5 حزب إصلاح المملكة المتحدة 3 الخضر لا تغيير بلايد كيمرو المصدر Ibid وقد أسفرت الانتخابات أيضا عن حصول حزبي العمال والمحافظين على أدنى حصة مجتمعة من الأصوات منذ عام 1945 وكان ذلك بفعل التأثير المشترك للتقدم الذي أحرزه الديمقراطيون الليبراليون 12 والأصوات التي حصل عليها حزب الإصلاح 14 وزيادة الأصوات لحزب الخضر 7 فضلا عن تصويت أعلى من المعتاد لصالح المستقلين من بين جمهور حزب العمال وقد أعطى ذلك مؤشرا على تشرذم الأصوات بين الأحزاب وترهل النظام الانتخابي التقليدي في بريطانيا القائم على الثنائية الحزبية وكان عزوف الناخب الإسكتلندي عن التصويت لصالح الحزب الوطني الإسكتلندي بمنزلة تحول بعيدا عن الشعارات التي رفعها الحزب بخصوص الاستقلال وتركيز أكبر على القضايا الاقتصادية والمعيشية وقد بنى الحزب الوطني الإسكتلندي حملته الانتخابية على فكرة مؤداها أنه إذا فاز بأغلبية مقاعد إسكتلندا البالغ عددها 57 مقعدا فسيكون لديه التفويض لإعادة التفاوض بشأن استفتاء ثان على الاستقلال لكن هزيمته الساحقة أنهت كل حديث عن هذا الموضوع شكل التعامل مع أزمة الهجرة عاملا مهما في تدهور الثقة بحكم المحافظين فقد أثارت خطط الحزب بإرسال المهاجرين غير النظاميين إلى رواندا انتقادات واسعة باعتبارها تنتهك القانون الدولي أبرز العوامل المؤثرة في النتائجيمكن تحديد جملة من العوامل التي أسهمت في تحديد نتائج الانتخابات وشكلت قضايا رئيسة حكمت سلوك الناخب البريطاني فيها أهمها الأزمة الاقتصادية وسوء الخدمات العامة شكلت الأزمة الاقتصادية محورا أساسيا في الانتخابات حيث عانى البريطانيون خلال السنوات القليلة الماضية خصوصا بعد أزمة كورونا 2019 2021 ارتفاعا غير مسبوق في تكاليف المعيشة وقد تولى المحافظون السلطة في ذروة الأزمة المالية العالمية وفازوا بثلاثة انتخابات منذ ذلك الحين لكن هذه الفترة تميزت بالركود الاقتصادي وتدهور الخدمات العامة وسلسلة من الأزمات السياسية التي جعلت المحافظين هدفا سهلا للانتقادات من اليسار واليمين على السواء ويحمل الكثير من البريطانيين حكومة المحافظين المسؤولية عن المشاكل الخدمية التي تواجههم بدءا من أزمة القطارات التي تمثل عصب الحياة الاقتصادية في بريطانيا والتي تعرضت لشلل متكرر إلى أزمة التضخم ونقص الإسكان الاجتماعي وأزمة القطاع الصحي حيث تعاني المستشفيات التابعة لهيئة الخدمات الصحية البريطانية NHS التي تقدم الرعاية الصحية المجانية للمجتمع تضخما في قوائم الانتظار الطويلة فضلا عن إضراب الأطباء المتكرر بسبب الرواتب المنخفضة ارتباط سمعة حزب المحافظين وحكومته على نحو متزايد بالفضائح التي تفجرت في عهد رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون وخليفته ليز تراوس التي استمرت حكومتها 44 يوما فقط والتي تسببت في فوضى للاقتصاد والأسواق المالية وكانت آخر الفضائح التي تعرض لها المحافظون تلك المتعلقة بالرهانات حيث جرى الكشف في حزيران يونيو الماضي عن مشاركة أعضاء في الحزب بمن فيهم مقربون من سوناك في رهانات على تحديد موعد الانتخابات العامة ما دفع عديدين منهم إلى الاستقالة أو الانسحاب شكل التعامل مع أزمة الهجرة عاملا آخر مهما في تدهور الثقة بحكم المحافظين فقد أثارت خطط الحزب المثيرة للجدل والتي تقضي بإرسال المهاجرين غير النظاميين إلى رواندا حتى الانتهاء من النظر في طلبات لجوئهم انتقادات واسعة باعتبارها تنتهك القانون الدولي وغير إنسانية فضلا عن تكلفتها المادية الباهظة في المقابل قاد اليمين المتطرف المعادي للهجرة حملة أعطت انطباعا أن الحكومة فقدت السيطرة على الحدود مع استمرار تدفق قوارب المهاجرين عبر القنال الإنكليزي تزايد الصراعات والتناقضات داخل حزب المحافظين فمنذ بدء الاستعداد لإجراء انتخابات عامة مبكرة واجه سوناك أزمة داخل حزب المحافظين الذي يتزعمه إذ انسحب عدد كبير من الأعضاء الفاعلين في دوائر انتخابية مختلفة من الترشح للانتخابات في أكبر انسحاب منذ عام 1997 وذلك بسبب تقديم موعد الانتخابات حيث عبر بعض المنسحبين عن عدم استعدادهم للدخول في الحملة الانتخابية بسبب قصر الفترة الزمنية في حين انسحب آخرون بسبب عدم قدرتهم على توفير التمويل اللازم لإدارة حملاتهم وقد بلغ عدد النواب المنسحبين من السباق الانتخابي 78 متخطيا الرقم القياسي في حقبة الخروج التاريخي البالغ 72 نائبا قبل الانتخابات العامة في 1997 إضافة إلى ذلك يعاني حزب المحافظين مشكلة في القيادة حيث تغيرت قيادته أربع مرات خلال ثلاث سنوات كما أنه تلقى ضربة قاسية بحلوله ثالثا بعد حزب العمال والديمقراطيين الليبراليين في الانتخابات المحلية التي جرت في أيار مايو 2024 فضلا عن ضعف الثقة المتزايدة لدى الناخبين بأداء الحكومة حيث عبرت أغلبية المشاركين 84 في استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة إبسوس في نيسان أبريل الماضي عن عدم رضاها عن الطريقة التي تدير بها الحكومة البلاد عبرت نتائج الانتخابات عن الرغبة في التغيير ومعاقبة حزب المحافظين بعد سنوات مضطربة تلت خروج بريطانيا في عهده من الاتحاد الأوروبي خاتمةحملت نتائج الانتخابات العامة الأخيرة في بريطانيا هزيمة غير مسبوقة لحزب المحافظين بعد 14 عاما قضاها في الحكم وقد خسر الحزب ثلثي المقاعد التي كانت في حوزته ما دفع سوناك إلى الاستقالة من زعامته تاركا وراءه حزبا ممزقا وكانت الانتخابات بحسب توزع الأصوات اقتراعا على فشل المحافظين أكثر منها تأييدا لحزب العمال الذي ارتفعت نسبة التأييد له على نحو متواضع 34 من الأصوات وقد عبرت نتائج الانتخابات عن الرغبة في التغيير ومعاقبة حزب المحافظين بعد سنوات مضطربة تلت خروج بريطانيا في عهده من الاتحاد الأوروبي إضافة إلى سوء إدارته أزمات كورونا والهجرة والتضخم ولئن كان الانتصار الساحق الذي حققه حزب العمال الذي ينتمي إلى يسار الوسط في الانتخابات البريطانية يتناقض مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا فإن في الواقع ثمة رابحا إضافيا من تلاشي قوة المحافظين في بريطانيا هو حزب الإصلاح بقيادة زعيمه الشعبوي نايجل فاراج الذي دخل البرلمان أول مرة بعد فوزه بخمسة مقاعد وحلوله ثالثا في نسب التصويت بحصوله على 14 من أصوات المقترعين