رغم الصورة النمطية للثري العربي في السينما الأميركية فإن الواقع الحقيقي في الاقتصاد العربي بمجموعه يخالف هذه الصورة خصوصا إذا استبعدنا منه بضع دول نفطية غنية قليلة السكان بالخليج العربي حيث يتكشف حينها الواقع المزري لهامشية وفقر وتخلف المنطقة حتى بالقياس إلى كثير مما كان يحسب ضمن العالم النامي الفقير منذ بضعة عقود لا غير لا يتجاوز كامل الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصاد العربي 3 68 تريليونات دولار عام 2022 بنسبة تقل عن 3 65 من الناتج الإجمالي للعالم البالغ 101 تريليون دولار في العام نفسه رغم أن العرب يمثلون 5 62 من سكان العالم ويعيشون في نحو 9 6 من مساحته وتصبح الصورة أسوأ بتفكيك التكوين النسبي لذلك الناتج الإجمالي من جهة توزيعه ومصادره إذ تمثل حالة الدول العربية كثيفة السكان محدودة الموارد الواقع الحقيقي للاقتصاد العربي بمعزل عن مظهر الثراء الخادع الذي تخلقه الريوع النفطية في مجموعة دول الخليج قليلة السكان والغنية بالموارد فالدول النفطية الخمس الأغنى في المنطقة السعودية والإمارات وقطر والكويت وعمان تمثل وحدها نحو 61 3 من الناتج الإجمالي العربي ونصفها تقريبا يرجع للسعودية وحدها وبضم العراق والجزائر باعتبارهما دولتين نفطيتن أقل ثراء ترتفع نسبة المجموعة النفطية إلى 73 5 من الناتج الإجمالي العربي بينما لم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لأي دولة عربية غير نفطية حاجز 100 مليار دولار سوى في حالتي المغرب البالغ عدد سكانها 37 مليونا ومصر التي تمثل وحدها ربع المواطنين العرب وتمثلان معا 16 6 من الناتج الإجمالي في الاقتصاد العربي ليبقى نحو 10 فقط من الناتج المحلي الإجمالي العربي لبقية دول المنطقة يعطينا ذلك فكرة واضحة عن مدى الضعف الشديد لاقتصاداتها وحتى على أساس هذا الناتج الإجمالي المنتفخ بالمكون النفطي غير المستدام والمتركز في بضعة دول بلغ متوسط نصيب المواطن العربي عموما من الناتج الإجمالي بالأسعار الجارية 8563 دولارا عام 2022 يقل بنحو 50 عن نظيره العالمي البالغ 12688 دولارا في نفس العام ما يعني أنه أسوأ بكثير على مستوى مجموعة الدول العربية غير النفطية فضلا عن عدم استدامته لمجمل المنطقة في حالة تراجع عوائد الموارد النفطية لأي سبب وعلى المستوى القطاعي بلغت نسبة الصناعات الاستخراجية في العام 2022 ما يقرب من ثلث ذلك الناتج بنسبة 29 5 عام 2022 ما يبدو أكثر وضوحا على المستوى القطري حتى في بعض الدول العربية كبيرة الحجم والسكان بمستويات تصل إلى 30 8 من الناتج الإجمالي في الجزائر و33 1 في السعودية و38 3 في عمان وصولا إلى 48 9 في ليبيا و56 4 في العراق في المقابل لم تتجاوز نسبة الصناعات التحويلية 11 4 فقط من ذلك الناتج ما يرتفع على المستوى القطري إلى مستويات 21 4 من الناتج الإجمالي في البحرين كأعلى نسبة بين كافة الدول العربية و17 4 منه في الأردن و16 1 في المغرب و16 في مصر و15 6 في السودان و14 7 في السعودية و13 8 في تونس و12 9 في سوريا و9 2 في الإمارات وصولا إلى مستويات مأساوية شديدة الانخفاض غير منطقية ولا مقبولة في دول كبيرة نسبيا حجما وسكانا كما هو الحال في الجزائر بنسبة 3 7 من الناتج الإجمالي و1 6 في العراق وبلغ إجمالي الصادرات العربية نحو 1411 مليار دولار بنسبة 5 7 من الصادرات العالمية عام 2022 مقابل إجمالي واردات نحو 936 مليار دولار بنسبة 3 7 من الواردات العالمية ما يبدو إيجابيا من الوجهة الكمية لكن باستبعاد صادرات الوقود البالغة 67 9 من إجمالي الصادرات يتضح مدى عدم استدامة هذا الهيكل التجاري ومدى تأخر واختلال تكوينه النوعي الذي لا تتجاوز صادرات الصناعة التحويلية فيه نسبة 21 7 من إجمالي الصادرات أما على المستوى العربي فلم تتجاوز التجارة البينية العربية 131 مليار دولار بنسبة 9 3 فقط من إجمالي الصادرات العربية ما يتسق مع هيمنة تصدير الموارد الطبيعية إلى الدول الصناعية المتقدمة على هيكل التجارة الخارجية العربية ويكشف مدى تفكك الاقتصادي العربي بسبب التشابه الضار بين أغلب اقتصادات المنطقة الناتج عن ضعف التخصص وتقسيم العمل فيها وبطبيعة الحال فيما بينها تماشيا مع بقائها في مستوى منخفض ومتأخر من التطور التقني والاقتصادي التحدي والفرصة تراجع الريوع النفطية اتخذت نسبة الريوع النفطية من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصاد العربي اتجاها عاما هابطا منذ بدأت طفرتها أواسط سبعينيات القرن الماضي فانخفضت من ذراها البالغة 46 9 و57 6 منه عامي 1974 و1975 على التوالي إلى ذرى أقل بلغت 32 9 و32 7 منه عامي 2008 و2011 على التوالي لتتراوح ذراها مؤخرا بين 21 1 و17 1 منه عامي 2018 و2021 على التوالي وترافق ذلك التراجع مع تقلب شديد في إجمالي الصادرات العربية بما يؤكد غلبة عدم الاستقرار والاستدامة عليها كما أظهر ميلا عاما أوليا لتراجعها منذ عام 2012 حيث انخفضت من 1 52 تريليون دولار إلى 954 مليار دولار بين عامي 2012 و2016 لتعاود الارتفاع إلى 1 29 تريليون دولار عام 2018 ثم تنخفض مجددا إلى مستوى أدنى من السابق عند 937 مليار دولار عام 2020 قبل تحسنها مرة أخرى عام 2022 على ما سلف ذكره بما يشير إلى بوادر ميل للتراجع تؤكده التقديرات المتخصصة المختلفة بوصول الطلب على الوقود الأحفوري إلى ذروته التاريخية أواخر العقد الحالي قبل أن يبدأ بالتراجع الصافي المستمر هذا الاتجاه لتراجع الريوع النفطية المرتبط ببوادر الميل لتراجع الصادرات الاستخراجية العربية إلى الخارج يجمع بين ما هو إيجابي وما هو سلبي فمن جهة إيجابيته فهو يعني مع استمرار نمو الناتج الإجمالي العربي تحقق زيادات فعلية بذلك الناتج خارج هذه الريوع من قطاعات سلعية أخرى أكثر إنتاجية بما يعني مزيدا من النمو الحقيقي بالقدرات الإنتاجية والاستقلالية الاقتصادية تجاه الخارج فضلا عن تحقيق المزيد من الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية أما من جهة سلبيته فهو يعيد تأكيد بجمعه التقلب الشديد في نسب تلك الريوع وتراجعها الصافي كاتجاه عام عبر مجمل الفترة عدم رشادة الاعتماد الزائد على هذه الريوع وحتمية تسريع وتيرة تنويع الاقتصاد العربي والاستعداد لنهاية الطفرة النفطية التي أصبحت أقرب من وشيكة تتضح أهمية ذلك خصوصا إذا قارنا هذه النسبة بنظيرتها على مستوى العالم فلم تتجاوز الأخيرة في أقصى ذراها طوال العقود الخمسة الأخيرة نسب 4 8 و3 و2 8 و1 5 و1 3 من الناتج الإجمالي العالمي لأعوام 1980 و2008 و2011 و2018 و2021 على التوالي بما يكشفه ذلك من غرابة واستثنائية وضع الاقتصاد العربي التي ستنتهي عاجلا لا آجلا بما تعنيه من حتمية تطبيع ذلك الاقتصاد بالانتقال من الاعتماد المفرط على هذه الريوع إلى مواجهة استحقاقات العصر بجهاز إنتاجي حديث يعتمد منطق التصنيع التحويلي المدفوع بالتكنولوجيا مفتوحة الآفاق لا الاستخراج الطبيعي الناضب عاجلا او آجلا يدفع هذا التراجع شبه المؤكد عدة روافع هيكلية أولها التراجع الحتمي في احتياطيات النفط والغاز نفسها حتى وإن ظلت أكثر من كافية لإثراء بعض الدول العربية الأصغر حجما وسكانا وثانيها الاتجاه المتزايد لاستخدام الطاقة المتجددة بعيدا عن الوقود الأحفوري مع تحسن طرائق إنتاجها وانخفاض تكاليفها مقابل الاتجاه لنضوب الأخير أو على الأقل شحه بدرجة كافية لرفع تكلفته النسبية وتقليص عوائده الصافية وربما جدواه الاقتصادية في وقت ما فيما ثالثها الاتجاهات المتزايدة للحفاظ على البيئة المتدهورة والمخاوف من العواقب الكارثية للتغير المناخي بما تمثله من حافز إضافي للانتقال لأشكال الطاقة النظيفة وتقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري أما رابع الروافع فهو الاتجاهات الجيوسياسية لانقسام العالم ما بين شرق وغرب بما ستؤدي إليه من دفع للقوى الصناعية المختلفة لمحاولة الاستقلال الطاقوي بتقليل اعتمادها على استيراد الطاقة من دول أخرى باعتباره مصدرا للضعف والتهديد الاستراتيجي وتأتي خامسا احتمالات الأزمة الاقتصادية الكبرى التي يتوقعها العالم ويعيش مخاوفها فعليا بما ستتضمنه من ركود حاد محتمل سيقلل الطلب على الطاقة مع تراجع الإنتاج بدرجة قد تخفض أسعار الوقود الأحفوري بأشكاله المختلفة بدرجات معتبرة ويشكل هذا التراجع تحديا لكامل المنطقة فرغم تركز هذه الريوع في مجموعة دول صغيرة محدودة السكان فإن أغلب دول المنطقة تستفيد بطريقة أو بأخرى من تدفق ودوران جزء منها عبر قنوات تحويلات العاملين بالخليج والاستثمارات الخليجية وغيره ما يعني تضرر كامل المنطقة من تراجعها وضرورة استعدادها لتعويض تراجعها من خلال قنوات أخرى يشمل ذلك الدول النفطية نفسها التي مهما راكمت من فوائض عبر السنوات فإن عدم تحويلها لاستثمارات منتجة وضمن تحولات قطاعية طويلة الأجل سيجعل أكبرها يعاني على الأقل تراجعا معتبرا في مستويات معيشة شعوبها من جهة أخرى يمثل نفس التراجع فرصة إذا استجابت له الدول العربية بالطريقة الصحيحة فمن جهة هو يقلل نسبيا من ضغط الهيمنة الخارجية على المنطقة الهادف لربطها بالمصالح الاستراتيجية للقوى العالمية ما يعطيها مساحة أوسع للمناورة والاستقلال النسبيين كما يدفعها اضطرارا مع تغير مستويات الدخول وهياكل الأسعار المحلية والدولية على السواء للاهتمام بصورة أكبر بالقطاعات الإنتاجية المحلية وتلبية الاستحقاقات التنموية التاريخية المتأخرة المتمحورة حول التصنيع المستقل وأخيرا يدفع بهذه الدول لمحاولات التعاون والتكامل السوقي والإنتاجي للاستفادة من مزايا الحجم وتقارب الظروف والأوضاع فضلا عن السياق الاجتماعي المؤاتي من وحدة اللغة والثقافة المشتركة يعني ذلك حتمية تغيير الإطار والمنطق الحاكمين عمل الاقتصاد العربي باعتبار أن جوهر أزمته ليس في الريوع النفطية بحد ذاتها فقد ساهمت هذه الريوع في تحسين مستويات المعيشة والبنية التحتية ورأس المال البشري وتحقيق طفرة حضارية عموما انتقلت بأغلب المنطقة عقودا إلى الأمام واستثنتها من واقع ومصير أغلب دول أفريقيا جنوب الصحراء لكن تكمن المشكلة في طريقة التعاطي مع هذه الثروة بدءا من طريقة توظيفها إما في خدمة بناء قدرات إنتاج محلية مستدامة أو الاكتفاء بتصديرها وإهدار العوائد في الاستهلاك المفرط وإعادة التدوير في أسواق المال الدولية وكما يقول علي القادري في كتابه التنمية العربية الممنوعة ديناميات التراكم بحروب الهيمنة مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2020 ترجمة كاتب السطور إن النفط نفسه لا يفسر التأخر الاقتصادي بل يكمن التفسير في تبعية غير مألوفة يقوم ضمنها المسؤول عن التنمية تحالف الطبقة التجارية والإمبريالية بقيادة أميركا بتفكيك العمل وإعادة تدوير ثروة المنطقة خارجها بدلا من داخلها يشترط ذلك تعاونا عربيا شاملا فكما أشار الاقتصادي راجنار نيركسه لا تحفز الأسواق الصغيرة سوى الاستثمار الصغير فيما تحفز الأسواق الكبيرة الاستثمار الكبير ما يعني ضرورة سعي الدول العربية التي يعاني جلها من صغر الحجم ومحدودية الأسواق بمقاييس الصناعة والاقتصاد الحديثين إلى درجة ما من التعاون التجاري ودمج الأسواق ولو بشكل تدريجي يبدأ ببعض القطاعات والسلع على الأقل كما كانت بداية الاتحاد الأوروبي المتواضعة بمجرد جماعة للفحم والصلب ووحدة جمركية في خمسينيات القرن الماضي ومما قد يحفز ويدعم هذا الطموح هو اتجاه التجارة الدولية للتراجع منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008 والذي يرجح تفاقمه مع ما يختمر من أزمة عالمية جديدة ستضعف قبضة منظومة الهيمنة الرأسمالية وتسمح بمساحة أكبر من التغيرات في هياكل التجارة وأنماط التبادل العالمية فضلا عن إعادة صياغة العلاقات الإقليمية والدولية بما يعنيه ذلك من إمكانات صعود قوى جديدة وتكون تحالفات وتكتلات مختلفة قد تكون ضمنها فرصة العرب التاريخية وربما الأخيرة للحاق بالعصر واحتلال مكانتهم المأمولة والمستحقة