استقرار الأنظمة واضطراب المجتمعات
من أكثر الظواهر اللافتة في العالم العربي تلك المفارقة التي تتمثّل في استقرار الأنظمة السياسية مقابل اضطراب المجتمعات وتصدّعها الداخلي. ففي حين تبدو الدولة العربية قادرة على فرض السيطرة، مع صورة من الصلابة المؤسسية والسياسية، تبدو المجتمعات في المقابل محكومة بالانقسام، مُثقلة بالأزمات، وعاجزة عن التعبير الحرّ أو إنتاج قوى تغييرية فاعلة.
هذا التناقض ليس سطحياً أو عارضاً، بل يعكس طبيعة بنيوية مُتجذّرة في علاقة السلطة بالمجتمع، ويفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول أسس الاستقرار السلطوي وحدوده وإمكاناته المستقبلية.
غالباً ما يُعزى هذا الاستقرار إلى الاستبداد العربي. ففي ظلّه، نجحت أغلب الأنظمة في السيطرة على المجال العام وإضعاف قوى المعارضة، غير أنّ اختزال التفسير في هذا البعد وحده يبدو قاصراً، خاصة أنّ أحداث الربيع العربي كشفت هشاشة العديد من هذه الأنظمة، وسقوطها السريع رغم امتلاكها أدوات القمع والعنف.
لذلك، يصبح لزاماً النظر إلى هذه الظاهرة الإشكالية باعتبارها نتاجاً لمجموعة مُتشابكة من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والخارجية، تُشكّل معاً شبكة مُعقّدة تفسّر قدرة الأنظمة على الاستمرار وسط مجتمعات مضطربة.
على الصعيد الاقتصادي، لعبت الطبيعة الريعية للدولة العربية دوراً محورياً في إنتاج هذا الاستقرار النسبي، إذ تعتمد كثير من الدول على النفط أو الغاز أو المساعدات الخارجية، ما يمنحها قدرة استثنائية على التحكّم بالموارد وتوزيعها بطريقة انتقائية.
لا تقمع الأنظمة كلّ المجتمع دفعة واحدة، بل تضرب نقاط التأثير الاستراتيجية، وتسمح بهوامش تنفيس محدودة لا تُهدّد جوهر السلطة
هذا النموذج مكّن الأنظمة من شراء الولاءات، سواء عبر دعم مباشر للمواطنين أو عبر تمكين النخب الاقتصادية والسياسية المُرتبطة بالسلطة، وبدل أن يتأسّس الاستقرار على عقد اجتماعي يقوم على المشاركة والمُساءلة، أصبح قائماً على مقايضة غير متكافئة: الولاء مقابل الريع.
أما داخلياً، فقد اعتمدت الأنظمة على بناء تحالفات مُعقّدة مع الأجهزة الأمنية، البيروقراطية، ورجال المال والأعمال، وأحياناً مع الأحزاب الرسمية أو القوى التقليدية؛ كالقبائل والطوائف. وهذه التحالفات تنتج مصلحة مشتركة في استقرار النظام، بحيث يصبح ضعفه تهديداً مباشراً لبقاء هذه الشبكات، ولعل هذا يفسّر كيف
ارسال الخبر الى: