يقع أطباء التخدير والعناية المركزة والطوارئ في فخ إدمان العقاقير الطبية إذ تحاصرهم ضغوط العمل المستفحلة جراء قلة أعدادهم بالإضافة إلى إمكانية الوصول والتحايل على بروتوكول صرف المسكنات الأفيونية عبر طرق متنوعة تتذكر طبيبة التخدير المصرية علياء عصام التي تعمل في مستشفى شرق المدينة جيهان بمحافظة الإسكندرية شمالي البلاد مشهدا مفاجئا عايشته قبل 7 أعوام حين سقط زميلها الذي رفضت ذكر اسمه حفاظا على خصوصيته أثناء العمل في غرفة عمليات مشفى حكومي كانت تعمل فيه بمحافظة البحيرة شمالي مصر وبعدما توقف قلبه أجرينا له إنعاشا وكانت حالته من الخطورة أن استدعت رقوده في العناية المركزة عدة أيام تقول عصام لكن الأخطر ما كشفته الفحوص والتحاليل بأنه مدمن على العقاقير الطبية المخدرة وعلى الرغم من مرور أعوام على الحادثة لكنها ما تزال محفورة في ذهن الطبيبة لأنها ليست الوحيدة إذ تكشف لـالعربي الجديد أنها كانت على علم بإدمان طبيبين آخرين كان أحدهما متخصصا في علاج الأورام وفصل من عمله في مشفى حكومي بعد اكتشاف إدمانه في عام 2018 والآخر طبيبا متخصصا في أمراض القلب نقل من مقر عمله أيضا عام 2015 وكلاهما دأبا على حقن نفسيهما بعقاقير أفيونية opioids وهي ظاهرة يؤكد وجودها أستاذ الطب النفسي بكلية الطب في جامعة الزقازيق حكومية بمحافظة الشرقية شمال شرق القاهرة وائل أبو هندي قائلا إن 30 من المتعافين من الإدمان الذين تلقوا علاجا على يديه سواء في عيادته الخاصة أو المشافي التي عمل بها كانوا أطباء تتنوع تخصصاتهم بين التخدير والعناية المركزة وأطباء الطوارئ محفزات الإدمان يرفض المتحدث باسم وزارة الصحة والسكان المصرية حسام عبد الغفار أي ربط بين مهنة الشخص ووقوعه في فخ الإدمان معتبرا ذلك وصما لمهنة الطب وينفي وجود أي إحصائيات حول إدمان الأطباء لدى الوزارة بينما يصر رئيس جمعية أطباء التخدير في مصر نبيل عوني على أن نسبة المدمنين من أطباء التخدير لا تتعدى واحدا من بين كل ألف طبيب وهو ما يتعارض مع الحقائق التي يقدمها الطبيب أبو هندي والتي رصدها خلال عمله معيدا لجوء الأطباء وبخاصة المتخصصين في التخدير والعناية المركزة والطوارئ إلى المواد المخدرة مثل المورفين والترامادول وعقاقير أخرى لسببين رئيسيين أولهما تعرض الأطباء لضغوط شديدة في العمل وهذا قد يتقاطع مع نقائص شخصية لديهم وأهمها الاندفاعية والتهور والاضطرابات النفسية والثاني هو وجود هؤلاء الأطباء الدائم وسط أدوية التخدير بفعل طبيعة عملهم حتى أن هذا العامل قد يكون سببا في انتكاسة بعضهم حتى بعد تعافيه من الإدمان وينسحب الحال هذا على الأطباء وحتى الممرضين عالميا وفق ما يبينه تقرير بعنوان الإدمان بين العاملين في المهن الطبية نشره موقع مراكز الإدمان الأميركية American Addiction Centers شبكة من مراكز إعادة التأهيل الأميركية مؤكدا أن العديد من المحفزات المرتبطة بمهنة الطبيب تجعل العاملين فيها أكثر عرضة للإدمان إذ يتعاطون مواد مثل الأوكسيكودون أو الفنتانيل مسكنات أفيونية نتيجة سهولة الوصول إلى هذه الأدوية القوية مشيرا إلى أن 1 من 10 أطباء سوف يقع في إدمان المواد المخدرة في مرحلة ما من حياته ما سبق يؤكده طبيب التخدير أحمد سمير سعد الذي يحمل شهادة الدكتوراه في التخدير والرعاية المركزة وعلاج الألم ويعمل مدرسا مساعدا بقسم التخدير بمستشفى قصر العيني بكلية الطب في جامعة القاهرة ومؤلف كتاب الإكسير سحر البنج الذي نمزج قائلا لـالعربي الجديد أن سهولة وصول أطباء التخدير إلى تلك المواد تدفع بعضهم للتعاطي ثم الإدمان بمرور الوقت ويضرب مثالا على ذلك بما عايشه خلال رحلة عمله الممتدة منذ 14 عاما زامل خلالها 3 أطباء مدمنين أحدهم توفي والآخر ترك المهنة وأصيب الثالث بأضرار بالغة إذ بترت أطرافه وتضررت أوردته بشدة بفعل الاستخدام غير الاعتيادي للحقن وأدمن هؤلاء وهم في الثلاثينيات من عمرهم دواء ميدازولام الذي يستخدم مهدئا ومنوما قبل العمليات الجراحية أو لمن يرقدون في العناية المركزة وبسبب ظروف بيئة العمل تمكنوا من الحصول عليه عن طريق اقتطاع كميات من الجرعة المقررة للحالة المرضية مع تسليم الأمبولات فارغة بعد ذلك للمستشفى من هم الأطباء الأكثر عرضة للإدمان يصنف المورفين والترامادول والفنتايل والأوكسيكودون من العقاقير الأفيونية التي تعرفها منظمة الصحة العالمية بأنها مركبات مستخرجة من نبتة الخشخاش وكذلك المركبات الاصطناعية وشبه الاصطناعية ذات الخصائص المماثلة التي يمكن أن تتفاعل مع مستقبلات المواد الأفيونية في الدماغ ولها آثار مسكنة للآلام ومهدئة ويمكن إدمان هذه المواد إذا استعملت لأغراض غير طبية لفترات طويلة ويكشف الطبيب محمد رمضان استشاري الصحة النفسية وعلاج الإدمان في أحد المستشفيات الخاصة تحتفظ العربي الجديد باسمه أنه يشرف سنويا على إعادة تأهيل نحو 15 طبيبا إذ يفضل المرضى وذووهم التوجه للعيادات أو المشافي الخاصة طلبا للعلاج كي لا ينكشف أمر إدمانهم في حال ترددوا على مستشفى حكومي ويقدر رمضان أن ما يزيد على 50 من هؤلاء وقعوا في فخ إدمان المسكنات الأفيونية مثل عقار النالوفين مسكن أفيوني من سلسلة الفينانثرين وعقار ديبريفان الذي يصنف مخدرا عاما وهما الأكثر شيوعا في التعاطي بين الأطباء وغالبيتهم متخصصون في طب التخدير والعناية المركزة والجراحة والتي يعاني العاملون فيها من ضغط عال علاوة على سهولة وصولهم للمواد المخدرة ويحتل ضغط العمل المرتبة الرابعة ضمن الأسباب المباشرة وراء التعاطي بنسبة 6 4 بحسب تصنيف التقرير السنوي لصندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي الصادر عن وزارة التضامن الاجتماعي المصرية في عام 2022 وقياسا على بيئة عمل الأطباء فإن ساعات عملهم المرهقة تجعلهم يبحثون عن طريقة للبقاء في حالة تأهب خلال نوبة عمل طوال اليوم أو الليل أو طريقة للهروب من الألم والضغط النفسي الناتج عن يوم مليء بالمصاعب والمشاهد قوية التأثير ما يؤثر يضغط بشكل كبير على حالتهم النفسية والعقلية ويشكل دافعا لتعاطي المخدرات بحسب ما جاء في تقرير مراكز الإدمان الأميركية السابق ضغوط العمل وعلاقتها بإدمان الأطباء تشهد المؤسسات الصحية المصرية عجزا يزيد عن 50 في أطباء التخدير والعناية المركزة ما يلقي على عاتقهم مهام مضاعفة في أماكن عملهم بحسب عضو مجلس نقابة الأطباء إبراهيم الزيات وهو ما يتوافق مع ما أوردته النشرة السنوية لإحصاء الخدمات الصحية لعام 2020 والصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في يونيو حزيران 2023 إذ بلغ عدد أطباء التخدير العاملين بالمشافي الحكومية 1116 طبيبا في 2020 أي أن العدد تراجع بنسبة 5 4 عن عام 2019 الذي سجل 1180 طبيبا وينسحب العجز على أطباء العناية المركزة الذين بلغ عددهم 826 طبيبا في 2020 بينما كان العدد 896 طبيبا عام 2019 وتكشف النشرة ذاتها أن الفترة الممتدة بين عامي 2016 و2020 شهدت تراجع عدد الأطباء في التخصصات كافة بمستشفيات القطاع الحكومي بنسبة 11 49 ليتقلص عددهم من 103 337 إلى 91 454 طبيبا بحسب إحصاء وزارة الصحة للأطباء البشريين العاملين بديوان عام الوزارة ومديريات الشؤون الصحية والجهات التابعة للوزارة بالقطاع الحكومي والصادر في يونيو 2023 ويجمع الأطباء الذين قابلتهم معدة التحقيق على خضوعهم لضغوط كبيرة ومن بينهم مجد حسين اسم مستعار لرئيس قسم التخدير بأحد المستشفيات الحكومية طلب عدم ذكر اسمه حفاظا على عمله موضحا في إفادته أن الطبيب يعمل بشكل نظامي 42 ساعة أسبوعيا بخلاف المناوبات ويتحمل صغار الأطباء في المستشفيات الحكومية 14 مناوبة شهريا وفوق ذلك يضطر معظمنا للعمل بمستشفيات خاصة أيضا لمضاعفة رواتبنا التي تتراوح بين 5000 جنيه 104 دولارات للطبيب حديث التخرج و8000 جنيه 166 دولارا لصاحب الخبرة ويضم المشفى الذي يعمل فيه 12 طبيبا ويتراوح عدد العمليات الجراحية اليومي بين 25 و40 عملية مقسمة على 3 أطباء تخدير وأحيانا طبيبين فقط وهذا العناء يعتبره أحمد سعد سبب إدمان بعض أطباء هذا الاختصاص إذ يصف في كتابه تخصص التخدير بأنه مرهق وساعات عمله طويلة والمسؤولية فيه والضغوط العصبية والنفسية عالية ويؤكد هذا خلال حديثه لـالعربي الجديد بقوله إن الطبيب قد لا يبرح محل عمله ولا يرى الشمس لفترات طويلة ما يؤول به للاكتئاب واضطرابات النوم والشد العصبي إثر حساسية عمله بغرفة العمليات وهي محفزات قد تقوده للإدمان كيف يحصل الطبيب على العقاقير المخدرة يكشف رمضان أساليب حصول الأطباء على العقاقير المخدرة من خلال روايات وتجارب الحالات التي خضعت للعلاج بإشرافه مبينا أن بعض الأطباء يتفقون مع مسؤول صيدلية المشفى أو أحد العاملين فيها لتسهيل حصولهم على المخدر ويحفظ الطبيب ماء وجهه بادعائه بيع المخدر وليس تعاطيه ويحصل هؤلاء على جرعات لا يمكن ملاحظتها أو الشك فيها تحت بند حاجة المريض لها بينما يدعي بعض الأطباء المدمنين حاجة مرضاهم لجرعات أكبر من الحقيقية ويتعاطون الكمية الزائدة عن حاجة المريض الأمر ذاته تؤكده الطبية علياء عصام التي قالت إنه ورغم وجود رقابة على صرف الأدوية المخدرة وإلزام الطبيب بتسليم عبوات الدواء فارغة بعد استخدامها إلا أن البعض يتحايلون على هذا الإجراء بكسر عبوة الدواء وحفظ كمية من المادة في حقنة والباقي يعطى للمريض وهو ما كان يفعله أحد أصدقاء الطبيب مجد حسين وزميله في القسم بعد إدمانه على مادة المورفين لمدة خمسة أعوام وكانت البداية حين خضع لعملية جراحية معقدة عام 2015 واستخدم المورفين لتسكين أوجاعه واستمر على ذلك حتى أدمنه وكان يختلسه من جرعات المرضى وأحيانا يطلب جرعات زائدة إلى أن كشف أمره وفصل من عمله عام 2019 وعاد لمسقط رأسه بمحافظة الدقهلية شمال شرقي القاهرة وتوفي عام 2020 ما الحل فقد طبيب التخدير عبده هلال اسم مستعار بناء على طلبه والذي يعمل في مستشفيات حكومية منذ 15 عاما اثنين من زملائه جراء توقف عضلة القلب لديهم بعد معاناة الإدمان ويقول في حديثه إنه فوجئ بإدمان 5 من زملائه العاملين في تخصصات التخدير والعناية المركزة والجراحة توفي اثنان منهم وتدهورت حالة ثلاثة آخرين منهم من أصيب بفشل كلوي وخلل في وظائف الكبد جراء حقن أنفسهم بالمسكنات الأفيونية مثل المورفين والبيثيدين و الدورميكوم و ديبريفان و ثيوبنتال الصوديوم والنالوفين والنيوريل والفاليوم التي كانت بداية وقوعهم في فخ الإدمان حين لجأوا إليها لمنحهم مساعدة زائفة على تحمل ضغوط العمل ويروي الطبيب مجد تجربة أخرى عايشها مع زميل يعمل جراحا قائلا خلال زمالتنا في أحد المستشفيات الحكومية عام 2016 شعرت من تصرفاته المتقلبة أنه مدمن أحيانا يكون عصبيا وفجأة يتحول إلى شخصية باردة علاوة على توتره المستمر وقد ثبت إدمانه فعلا مادتي المورفين والنالوفين رغم أنه كان أحد الأطباء المشهورين في مجاله لكن ساعات عمله الطويلة تسببت في تعاطيه وكان يشتري أمبولات المواد المخدرة من أصدقائه الصيادلة حتى بات أسيرا لتلك المواد التي سببت مرضه إذ إن تكرار الحقن خلف مشاكل في الأوردة وصمامات القلب وخضع لعملية قلب مفتوح لتغيير صمامات القلب في إبريل نيسان عام 2019 لكن صحته لم تحتمل وتوفي بعدها بأيام ما سبق يفسره الطبيب محمد عز العرب استشاري الكبد والجهاز الهضمي والمناظير ورئيس وحدة أورام الكبد بالمعهد القومي للكبد بالقاهرة قائلا أن مخاطر إدمان العقاقير المخدرة قد تصل إلى حد الوفاة وتابع لـالعربي الجديد إن المدمن إن لم يتعاط جرعته يدخل في حالة من الهيجان وقد يسعى للوصول إلى الشعور بالنشوة ويأخذ جرعة زائدة دون حساب ما قد ينتج منه مضاعفات خطيرة منها توقف عضلة القلب أو إصابته بالسكتة القلبية والوفاة المفاجئة هذا إلى جانب تأثير الإدمان في الجهاز العصبي معتبرا أن ضغط العمل سبب رئيسي في زيادة معدلات الوفاة بين أطباء التخدير والرعاية المركزة والطوارئ كذلك فإنه سبب رئيسي في اتجاه البعض للإدمان ومن أجل ذلك يجب فرض رقابة مشددة على صرف أدوية التخدير للأطقم الطبية في ظل خطورة تعرض أي من المتعافين للانتكاسة مجددا لوفرة الأدوية المخدرة في بيئة عمله مع ضرورة تقديم الدعم النفسي لمن يثبت تعاطيه كما يقول الطبيب سعد وهو ما يتفق معه رمضان مؤكدا ضرورة خضوع الطواقم الطبية بخاصة من يعملون في التخصصات الصعبة للمتابعة النفسية دوريا كي يواجهوا مشكلاتهم العملية والشخصية بدلا من اللجوء إلى المخدرات وعن دور وزارة الصحة الرقابي يقول عبد الغفار إن أطباء المستشفيات الحكومية باعتبارهم موظفين حكوميين يخضعون للائحة التنفيذية للقانون رقم 73 لعام 2017 التي تنص على أنه يشترط لشغل الوظائف في الجهات الخاضعة لأحكام القانون بالتعيين والتعاقد أو الترقية أو الندب أو النقل أو الإعارة أو للاستمرار فيها ثبوت عدم تعاطي المخدرات من خلال تحليل فجائي تجريه جهة العمل في المقابل ينفي جميع الأطباء الذين التقاهم العربي الجديد خضوعهم لهذا التحليل الفجائي خلال السنوات الماضية من قبل لجان وزارة الصحة إلا أنهم أكدوا وجود قيود على صرف الأدوية المخدرة لكنها غير كافية ولا تحول دون الاختلاس من الجرعات المخصصة للمرضى