أعمال السيرة ومحاكم الذاكرة
قد نتفق (أو ربما لا نتفق) على أن الفن ينبغي أن لا يحاكَم بنيات أصحابه ولا بالحملات التي تشنّ ضدّه أو معه، بل يحاكم بقدرته على فتح آفاق لطرح أسئلة متعدّدة ومختلفة، وليس شرطاً أن تكون أسئلة متعلقة بقضايا كبيرة، مثل الوجود والحرية والعدالة، بل مجرّد أسئلة جمالية بسيطة مرتبطة بالمتعة الآنية البصرية والسمعية التي ترضي ذائقة هذا المتلقي أو ذاك. يحاكم الفن أيضاً بشغف صانعه الذي يظهر من دون فجاجة، من دون أن يعلن عن وجوده، يشعر به المتلقّي ويصاب بعدواه. هذا ما يحدُث مع الموسيقا، مع التشكيل مع النحت في المسرح في السينما في عروض الرقص. ويحاكم بوصفه تجربة فنية مفتوحة على التناقض، لا بوصفه درسا أخلاقيا، ذلك أن تحويل الفن إلى مجرّد رسالة أخلاقية كفيل بقتل التجربة الجمالية، حسب الناقدة والمخرجة الأميركية سوزان سونتاغ في كتابها ضد التأويل.
لأعمال السير الذاتية منطق آخر في التعامل، أكانت أعمالاً مكتوبة أم مرئية ومسموعة، ذلك أن وجود شخصية حقيقية في عمل فني سوف يمنح المتلقي سلطة أخلاقية يحاكم من خلالها العمل وصنّاعه، حتى لو كان معظم العمل متخيّلا ويستخدم الشخصية مجرّد محور لربط أحداث العمل، وهوما لا يحدُث مع الأعمال الفنية المتخيّلة بالكامل، لا تحاكم من المنطق نفسه. هي بالنسبة للمتلقّي مجرد خيال لا يمسّ شيئاً من وعيه فرداً أو جماعة. لهذا لا توجّه نحوها أسئلة حادّة كما يفعل مع الأعمال التي تصطدم بذاكرة جمعية تنصب مقصلة، إن لم تتطابق مواصفات الشخصية مع الهالة المحيطة بها جماهيرياً، أو إن فقد العمل ولاءه للذاكرة الجمعية، فالشخصية هنا ملك مجتمع ووطن كامل تحوّلت إلى أيقونة ونموذج أخلاقي، وأي تغيير سردي في سيرتها سوف يفهم إساءة أو تشويهاً أو خيانة للذاكرة الجمعية/ الوطن، حتى لو كان هذا التغيير ضرورة درامية تخدم سيرورة العمل. مع الشخصيات الحقيقية، لا مجال للخيال، فالخيال بالنسبة للجموع انحراف، يسمح بإظهار الضعف والخطأ، بينما الشخصية الحقيقية الأيقونية يجب أن تبقى معصومةً من الانحراف والخطأ.
والحال أن ثمة ميلاً واسعاً
ارسال الخبر الى: