أشجار الزيتون الفلسطينية لو لم تمسسها نار الاحتلال
٥٢ مشاهدة
أمر لافت ذلك الارتباط الوشيج بين الثقافة الفلسطينية وشجر الزيتون الذي وصل إلى حد أن يكون الزيتون بأغصانه وأوراقه وثماره رمزا للبلاد التي يمحو جلادها كل تفاصيلها ويستبدلها بأخرى لا ترتبط بذاكرة الأرض عام 1974 حمل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات غصنا من الزيتون في مؤتمر جمعية الأمم المتحدة في مقرها في نيويورك وناشد من خلال منبرها لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي مكررا هذه العبارة التاريخية ثلاث مرات إلا أنه سبقها بعبارة تجعل لهذا الغصن تأويلات أخرى جئتكم وبندقية الثائر في يدي وفي يدي الأخرى غصن الزيتون غصن الزيتون الأخضر الذي حمله أبو عمار هو استعارة عن الأرض الفلسطينية أو لنقل إنه اختزال بلاغي لها وفي اقترانه بالبندقية تعبير عن جدلية الكفاح المسلح والأرض خلال العامين التاليين لكلمة ياسر عرفات اقتلع جيش الاحتلال الإسرائيلي نحو مليون ونصف مليون شجرة زيتون من الأراضي المحتلة هكذا يحاول الاحتلال أن يمحو ذكر الشجرة الفلسطينية عن الوجود ويمحو معها الذاكرة الفلسطينية الراسخة جذورها كما شجر الزيتون من البديهي أن يشن الاحتلال حملة ضد الشجرة التي ترسم جغرافيا فلسطين في إطار عملية التطهير العرقي التي بدأت قبل النكبة بأعوام ففي سعيه المستمر إلى التدمير عزم الاحتلال على تغيير المشهد الطبيعي في فلسطين وبطبيعة الحال من ضمن هذا التدمير سحق الطبيعة التي تعبر عن الفضاء الجغرافي وشكلت هوية سكانه وارتباطهم بأرضهم في أغسطس آب من عام 2021 اشتعلت حرائق كبيرة في جبال القدس وبعد أن أخمدت كاملة كشفت عن صورة مهيبة هي بقايا معالم وأطلال القرى الفلسطينية التي محيت في عام النكبة 1948 باتت كل قرية منها تحمل اسم المستعمرة الإسرائيلية التي بنيت على أنقاضها وسميت بأسماء قريبة من القرى الأصلية في إجراء كولونيالي يتقنه الاحتلال الإسرائيلي كشفت الحرائق التي التهمت جبال القدس ما تخفيه إسرائيل تحت القشور الاستعمارية التي تتجلى بالأشجار التي زرعت أغلبيتها بعد عام 1948 بادعاء أن أراضي فلسطين قاحلة مقفرة وجاء الاحتلال ليزرعها بينما كانت هذه الأراضي زراعية تعود ملكيتها إلى الفلاحين الفلسطينيين ومما أفصحت عنه الحرائق هو المدرجات في جبال القدس التي يغلب الظن بأنها موجودة في المنطقة منذ أكثر من 400 عام وهذه منحدرات كانت تساعد المزارعين الفلسطينيين لمنع انجراف التربة وتجميع المياه لسقاية أشجار الزيتون تدمير أراضي الزيتون ليس وليد السنوات الأخيرة إنما يعود إلى ما يتجاوز 100 عام بالتحديد مع مجيء الاستعمار البريطاني الذي جلب معه المؤسسات الصهيونية التي بدورها مأسست هجرات من قرروا تغطية مساحات كبيرة من فلسطين بمشروع تشجير فزرعوا الصنوبر بهدف توفير فرص عمل للمهاجرين اليهود في البداية يقول الفنان التشكيلي ناصر سومي في كتابه فلسطين وشجرة الزيتون تاريخ من الشغف الذي ترجمه عن الفرنسية هيثم الأمين إن ظروفا مناخية مؤاتية في أوائل الألف الخامسة قبل الميلاد سمحت بتدجين الكرمة وشجر الزيتون في فلسطين فالنور الذي يتطلبه الزيتون متوفر في هذا البلد وشجره يقاوم الجفاف ويتحمل البرد وهذا ما يعلل اعتبار فلسطين بيت شجرة الزيتون إلا أن الاحتلال الإسرائيلي الذي هاجم كل مفردات الهوية الفلسطينية اقتلع الشجرة واستبدلها بأشجار الصنوبريات التي لا تتلاءم مع مناخ فلسطين جلب الصنوبر من خارج فلسطين لأن طبيعة الأرض لا تتجانس مع هذه الأشجار وذلك في محاولة محاكاة الطبيعة الأوروبية الباردة في سبيل زعزعة الارتباط واختلاق غربة بين الفلسطيني وأرضه زرع الاستعمار الصهيوني هذه الأشجار في سياق محاولاته إحداث اندماج بين المستوطنين الأوروبيين وطبيعة الأراضي المحتلة حتى يشعر المستوطن الصهيوني الأوروبي أنه لم يبرح البلاد التي أتى منها فلا يشعر بأية غربة بيئية ومناخية في فلسطين بإمكان العربي حين يقلب في صفحات ذاكرته أن يسترجع صورة شاهدها عبر وسائل الإعلام لرجال ونساء فلسطينيين يبكون أشجارهم التي اقتلعتها الجرافات الإسرائيلية أو أحرقتها نيرانهم وهو مشهد مكرر في ما يشبه العود الأبدي فاغتيال الأرض وثمارها يعني حرمان الفلسطينيين من رزقهم وقوت يومهم مشاهد كهذه لا تقل وحشية عن المذابح التي اقترنت بتاريخ دولة الاحتلال بل تصب في صلب سياسة التجويع التي يتبعها الاحتلال إسرائيل سواء في إحراق الأراضي المثمرة أم باقتلاعها بالجرافات أو بحصار الفلسطينيين ومنعهم عن الغذاء والماء وكل مقومات العيش في قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش عن الصمود يقول لو يتذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعا إنها صورة شعرية مستقاة من علاقة الفلسطيني بأرضه ولكن الحقيقة أن بكاء الأشجار أصحابها سيتبعه بكاء أصحاب الأرض الأشجار المقتلعة عنوة من عمق أرض فلسطين وكما استوطن الاحتلال في أرض لا يملك حقا بها أتى بأشجار لا تتلاءم ومناخ فلسطين فاجتث البشر والشجر الأصليين وقايضهم ببنية اجتماعية ومناخية هجينة يذكر سومي أن اليهود امتلكوا عام 1945 نحو 700 هكتار من حقول الزيتون فاقتلعوها وزرعوا مكانها دوار الشمس والفول السوداني أما بعد النكبة فزرع الاحتلال غابات الصنوبر التي تشكل 90 من الغابات في الأراضي المحتلة حلت محل القرى الفلسطينية المدمرة التي ارتكبت فيها العصابات الصهيونية المجازر الجماعية والتطهير العرقي فالتطهير العرقي ليس استبدال شعب بآخر وهوية بأخرى فحسب بل ارتكاب جرائم ديمغرافية وطوبوغرافية أيضا إنه إزالة آثار أصحاب الأرض وخلق عالم قائم على أنقاض المنازل وجثث السكان ورماد الأشجار بين عامي 1947 و1949 أصبح ما لا يقل عن 750 ألف فلسطيني من أصل 1 9 مليون نسمة لاجئين خارج حدود الدولة وكانت القوات الصهيونية قد استولت على أكثر من 78 من فلسطين التاريخية ومارست تطهيرا عرقيا ودمرت نحو 530 قرية ومدينة وقتلت 15 ألف فلسطيني في سلسلة من الفظائع الجماعية بما في ذلك أكثر من 70 مذبحة وإبان النكسة أو حرب الأيام الستة عام 1967 طردت إسرائيل سكان عمواس وهي قرية فلسطينية شمال غرب القدس واستولت عليها بعد أن أخلتها من سكانها ودمرتها واليوم دفنت بقاياها إلى جانب ثلاث قرى أخرى تحت أشجار الكينا والبلوط غير الأصلية وأصبحت جزءا من متنزه أيالون كندا ولم تتبق آثار لسكانها الأصليين يقول سومي إنه في عام 1950 صودر نحو 137 ألف دونم من الزيتون في الدولة اليهودية الجديدة وقد قطع الاحتلال منها 30 ألف دونم واستبدلها بزراعات أخرى ويقدر أن 73 من مالكي الزيتون هم من الفلسطينيين الصامدين في أرضهم بعد حرب 1948 وينتجون نحو سبعة آلاف طن من الزيت سنويا وأدى جدار العزل إلى فصل المزارعين عن أرضهم ويحصي الباحث عدد الأشجار المقتلعة من الأراضي الفلسطينية ما بين أكتوبر تشرين الأول وسبتمبر أيلول 2008 ما يتجاوز مليون و600 ألف شجرة يعود ارتباط فلسطين بأشجار الزيتون إلى ما قبل الميلاد يقول اليونانيون في أساطيرهم إن هرقل غرس عصاه في الأرض فتحولت إلى أشجار زيتون زاهية فجدل أغصانها تاجا يتوج به رأس الرابحين أما الرومان الذين أتوا غزاة إلى فلسطين فاهتموا بثمار أرض فلسطين من الكرمة والزيتون يتحدث المؤرخ الروماني أميانوس مارسيليانوس الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد عن أن فلسطين بلد يمتلك العديد من المزارع المتقنة ليس من المستغرب أن يعيش الفلسطينيون المقتلعون من أرضهم في كنف ثقافة الأشجار المثمرة التي تنبتها بلادهم وباتت في مروياتهم الشعبية هذه الشجرة التي لقبوها بـشجرة النور اقترنت بوعي الفلسطينيين بهويتهم وكذلك ارتبطت بالقصص المقدسة التي تتناول الأنبياء يشهد على ذلك جبل الزيتون في القدس إذ يظن أن الشجرات تعود إلى عهد السيد المسيح وفي باحة المسجد الأقصى زيتونة مقدسة يعتقد المسلمون أنها نبتت من بذرة رماها النبي محمد حين زار القدس كما يستخدم زيتها لدفع النذور كما حضرت شجرة النور في الأمثال الشعبية حضر الأدب والشعر رديفا للهوية