من أسبرطة إلى صنعاء درس لم نتعلمه بعد

يمنات
أيوب التميمي
يُحكى أن في أسبرطة اليونانية كانت تسود قيمة نبيلة تربّى عليها أبناء الطبقات العليا، أولئك الذين عُرفوا بـ”الأسبارطيين”، وحُمّلوا أمانة إدارة الدولة وشؤونها العسكرية. كانت هذه القيمة بمثابة دستور أخلاقي ينصّ على أن الأسبارطي لا يكون إلا عاشقًا لوطنه، مخلصًا لقومه، لا يُغلّب مصلحة عشيرته على مصلحة أمّته، ولا ينشغل إلا بشؤون بلاده. عليه أن يزهد في التعلّق بغير أرضه، ويجتنب الاختلاط بالأقوام والدول الأخرى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، صونًا لهوية دولته، ووفاءً لمبادئها.
لقد كان الانتماء للوطن عقيدة، والانضباط الأخلاقي فضيلة تُعلّم منذ الطفولة. لم يكن الأسبارطي يجرؤ على تقديم الولاء لعشيرته أو قبيلته أو محافظته فوق ولائه للدولة، ولا على مدّ يده للأجنبي طلبًا للمال أو النفوذ. كانت فكرة الوطن هناك أشبه بالمقدّس: لا يُمَس، لا يُساوَم، ولا يُختزل في سلطة أو جماعة.
في أسبرطة القديمة، كانت الوطنية نمط حياة، لا مجرد شعار. تربّى الأسبارطي على أن يكون جنديًا في معركة الانتماء، لا يحمل سيفًا فحسب، بل يحمل هوية. وكانت تعاليم المدينة الصارمة تقول: لا يحقّ لمن يُعدّ نفسه لحمل همّ الدولة أن ينشغل بما هو خارجها. لا مجد في الانغماس في حياة الأجنبي، ولا كرامة في تقديم الولاء لغير الوطن أو التضحية بمصلحته.
لكن، ما أشدّ التناقض حين نسقط هذا النموذج على واقعنا اليمني اليوم، الذي يعيش حالة انشطار في الهويات، وتفكك في الولاء، وسقوطًا مدوّيًا في القيم العامة. لم تعد الوطنية تعني شيئًا أمام جاذبية الولاءات الطائفية والمناطقية والحزبية. كثيرون ممّن يُفترض أنهم قادة رأي ومثقفون وأصحاب موقف، باعوا انتماءهم مقابل النفوذ، أو المال، أو القرب من القوة الغالبة.
فالمشهد اليمني مبتلى بأبواق لا تُحصى: أبواق للشيطنة واللعن، وأبواق للدجل والتصفيق، وأبواق للافتراء والتلفيق، وأبواق تُروّج للنعرات الطائفية والمذهبية والدينية، وأخرى تؤجّج التعصّب المناطقي والقبلي. هذا “القيح الصوتي” المسموم هو أحد الأسباب الرئيسة لما نحن فيه من شتات وضياع، وهو ما حال دون نشوء وطن تتشكّل فيه هوية سياسية جامعة.
لقد تفكّكت
ارسال الخبر الى: