أعلنت الحكومة المصرية منتصف الأسبوع الماضي عن خطة لتحريك أسعار الكهرباء والخبز المدعم بصورة تدريجية بما يتناسب مع الزيادة الرهيبة في الأسعار على حد قولها التي أدت إلى ارتفاع فاتورة الدعم بنسبة 20 في موازنة العام المالي الجديد بعد نحو يومين أعلنت الحكومة عن زيادة سعر الرغيف المدعم بنسبة 300 دفعة واحدة بدءا من أول يونيو حزيران الجاري بعدما صارت سياسة تخفيض وزن الرغيف التي جرت تباعا طوال السنوات الماضية غير مجدية وتأتي تلك الخطوات بالتزامن مع استضافة القاهرة بعثة فنية من صندوق النقد الدولي لمراجعة مدى التزام الحكومة المصرية ببنود الاتفاق الموقع أخيرا مع الصندوق للحصول على قرض قيمته ثمانية مليارات دولار منذ بدأ تطبيق برامج ما سمي الإصلاح الاقتصادي التي كان أبرز ملامحها الانخفاض التاريخي لقيمة الجنيه بدءا من تعويم نوفمبر 2016 ومرورا بتعويم 2022 وانتهاء بتعويم مارس 2024 وتخللت هذا مواجهة تبعات جائحة كورونا ثم تبعات الحرب الروسية الأوكرانية ليزداد الطين بلة منذ هذا كله بدأت الطبقة الوسطى المصرية في خوض صراع مرير من أجل المحافظة على مكانتها ومستوى معيشتها وأهم ما كان يميزها عبر تاريخها وهو بلوغها حد السترة فقد أطلق الجبرتي على الطبقة الوسطى مساتير الناس أي القادرين على تدبير أمورهم والوفاء باحتياجاتهم المعيشية ببلوغ مرحلة الستر من دون الحاجة إلى معاونة من آخرين بدأت الطبقة الوسطى المصرية في خوض صراع مرير من أجل المحافظة على مكانتها ومستوى معيشتها بيد أن محاولة التدقيق في المشهد الاجتماعي المصري تكشف بوضوح أن الطبقة الوسطى في مصر أصبحت لأول مرة في تاريخها تقف في مهب الريح وتواجه مأزقا تاريخيا فقد أمست أمام تحديات حقيقية وتهديدات وجودية جراء التوسع في تطبيق سياسات اقتصادية نيوليبرالية متطرفة كادت أن تخرج الطبقة الوسطى من حد السترة وتقذف بها في مهاوي العوز بعدما ضربت تلك السياسات العديد من أركانها مثل نوعية المأكل ومستوى المسكن وجودة التعليم ما أفقدها الشعور بالأمان بعدما استولى عليها القلق من مواجهة مستقبل مجهول تلقت الطبقة الوسطى في مصر أخيرا ضربات قوية عديدة موجعة قلصت من مساحتها وحطمت قدراتها بعدما تزايدت عليها الأعباء الاقتصادية والاجتماعية لا سيما بعد بلوغ التضخم مستويات قياسية ما ألقى ظلالا سلبية ثقيلة على القدرة الشرائية للطبقة الوسطى فكانت أول من دفع فاتورة السياسات النيوليبرالية التي يصر صندوق النقد الدولي على تطبيقها المتمثلة في رفع الدعم أو على أقل تقدير تخفيضه إلى مستوى الحد الأدنى الموجه للغذاء والوقود مع زيادة أسعار خدمات الكهرباء والمياه ووسائل النقل إلى جانب تحرير سعر الصرف والتوسع في سياسة الخصخصة ببيع مزيد من الأصول والعجيب أن تلك الروشتات لم تفلح يوما في إنقاذ الاقتصاد المصري من أزمته القديمة المتجددة أو حتى إدخال بعض التحسينات على أدائه المتردي طوال العقود الماضية تلقت الطبقة الوسطى في مصر أخيرا ضربات قوية عديدة موجعة قلصت من مساحتها وحطمت قدراتها بعدما تزايدت عليها الأعباء الاقتصادية والاجتماعية الملمح الأعجب هنا أن الحكومة تتنصل من مسؤوليتها في مشكلة الكهرباء وتلقي بالتبعة على المواطن العادي وتحمله تكلفة فشلها رغم رفع الدعم بصورة كاملة عن خدمة الكهرباء منذ عام 2019 فصار المواطن منذ ذلك الحين يتحمل تكلفتها كاملة بيد أن انخفاض قيمة الجنيه بسبب السياسات الاقتصادية ومشكلة إنتاج الغاز لأسباب بيروقراطية وهما أمران من صميم اختصاص الحكومة وحدها أعادا الكهرباء مجددا إلى دائرة الدعم فأنحت الحكومة باللائمة على المواطن من جهة أخرى أدت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المتطرفة التي قلصت بشدة من دور الدولة في أداء واجباتها الاجتماعية بالتزامها بتقديم خدمات على درجة الحد الأدنى في قطاعي التعليم والصحة بالتحديد إلى ظهور موجة عاتية من الخصخصة في هذين القطاعين وصلت في بعض الأحيان إلى درجة الرسملة المتوحشة بالانتشار الفطري لكيانات أو منشآت خاصة تقدم خدمات تعليمية وصحية بأسعار فلكية من دون وجود رقابة حقيقية من الدولة تضمن وجود الحد الأدنى من آليات المنافسة وتضع ضوابط صارمة تحول دون وقوع المستهلك فريسة سائغة في براثن الجشع من دون سند أو معين انصبت جهود دول عديدة على إصلاح قطاعي التعليم والصحة ونجحت في تقديم خدمات تعليمية وصحية على درجة عالية من الجودة لأبناء مجتمعاتها كان من شأن هذا توسيع رقعة الطبقة الوسطى وفي المقابل تقلصت في الدول التي تعاني فيها المنظومة التعليمية من خلل أو فشل وظيفي إلى جانب صعوبة الحصول على خدمات صحية وعلاجية معقولة فيها رقعة الطبقة الوسطى وتآكلت قدراتها ووقفت على شفير الانهيار من جهة كما اتسع فيها الفارق ووصل إلى مرحلة غير معقولة على الإطلاق بين الطبقتين العليا والدنيا من جهة أخرى تخلت الدولة في مصر عن أداء واجباتها الاقتصادية والاجتماعية لتصير الصيغة المعدلة لا سياسة ولا خبز أيضا وهي سابقة جديدة وفريدة ثمة مفارقة تاريخية تستحق الإشارة إليها هنا تتعلق بالعقد الاجتماعي القديم لدولة 23 يوليو 1952 ذات الطابع الاستبدادي وكان مضمونه السياسة مقابل الخبز أو التنمية مقابل الديمقراطية منذ قيام العساكر بانقلابهم العسكري في ذلك اليوم على الحقبة الليبرالية بالكامل وليس على النظام الملكي فحسب وبعد تدشين المرحلة الشمولية العسكريتارية عقدت دولة يوليو 1952 اتفاقا ضمنيا غير مكتوب مع المجتمع المصري لا سيما الطبقة الوسطى فيه كان بمثابة العقد الاجتماعي الذي قامت على أساسه وكان تحت عنوان السياسة مقابل الخبز قام ذلك العقد الجائر على تنازل المواطنين المصريين عن ممارسة حقوقهم السياسية والدستورية أو حقوقهم في اختيار من يمثلهم بطريقة ديمقراطية في انتخابات حرة نزيهة في مقابل أداء الدولة واجباتها الاقتصادية والاجتماعية فبعد مصادرة المجال العام وتأميم المجال السياسي وإلغاء الأحزاب والتعددية وقيام التنظيم الشمولي الأوحد بما يعني تنازل المواطنين عن ممارسة حقوقهم في الممارسة الديمقراطية في مقابل ذلك تعهدت الدولة بقيامها بالتنمية والالتزام بسياسة دعم السلع الأساسية ودعم المحروقات إلى جانب التزام الدولة بتوظيف الخريجين في الجهاز الحكومي وشركات القطاع العام أخذت دولة يوليو 1952 في العقود الثلاثة الأخيرة تحديدا وصولا إلى اللحظة الحالية تتحلل من التزاماتها وتنسحب من مواقعها بصورة تدريجية فالقطاع العام التهمه مشروع الخصخصة ومؤسسات التعليم والصحة غرقت في حالة متفاوتة من الفشل الوظيفي والمحروقات وخدمات الكهرباء والمياه رفع عنها الدعم بصورة متفاوتة خلال السنوات العشر الماضية ولم يعد سوى الرغيف المدعوم وها هو الدعم يرفع بدرجة كبيرة عن الرغيف ليسقط البند الأخير المتبقي من ذلك العقد الاجتماعي القديم الذي قام على مقايضة جائرة افتقدت العدالة والتوازن ليمسي بصورة فعلية في ذمة التاريخ تكمن المفارقة الطريفة في أن النسخة الجديدة من دولة 23 يوليو قد عادت بالعقد الاجتماعي القديم نفسه ولكن بصياغة معدلة تعفيها من أي التزامات بعدما تخلت الدولة عن أداء واجباتها الاقتصادية والاجتماعية لتصير الصيغة المعدلة لا سياسة ولا خبز أيضا وهي سابقة جديدة وفريدة من نوعها غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث