من أدغال فيتنام إلى أنفاق غزة فن الكمين في مواجهة القوة الغاشمة

في عالم يبدو فيه أن “القوّة تصنع الحق”، حيث الطائرات تقرر مسار الدول والدبابات ترسم حدود الخرائط، يظهر الكمين العسكري بوصفه الفعل الأكثر تواضعًا وفتكًا في آنٍ معًا. إنه اللحظة التي تنقلب فيها معادلة الحرب: من الأعلى إلى الأسفل، من الغازي إلى المُقاوِم، من جبروت التقنية إلى حكمة الأرض. وفي هذا الإطار، لا يمكن فهم ما يجري اليوم في شوارع غزّة المحطّمة، وفي أزقتها وأنفاقها، دون استحضار تجربة الفيتكونغ في أدغال فيتنام. فكما حوّل الفيتناميون الغابة إلى حليف استراتيجي، تُحوّل المقاومة الفلسطينية اليوم الخراب إلى كمين، والأنقاض إلى هندسة قتالية، والضيق إلى فرصة.
الكمين.. حيث تتعرّى “الحضارة” أمام تكتيك الفقراء
لطالما كان الكمين هو التعبير الأكثر جذرية عن جوهر حرب العصابات: هجوم الضعيف على القوي، الفعل المنظم في زمن الفوضى، وتفكيك الغطرسة بالتوقيت والمفاجأة. وفي هذا السياق، ليس الكمين مجرد عملية عسكرية، بل هو بنية عقلية، نموذج معرفي، كما يسميه فوكو، يُحوّل اختلال ميزان القوى إلى فرصة قلب الطاولة.
لقد أتقن الفيتكونغ هذا الفن؛ فبين الأشجار والأنفاق وتحت الضباب، تفككت الأسطورة الأمريكية عن الجيش الذي لا يُهزم. وكما في كمين “كو رون” أو معركة “التل 875″، لم يكن الهدف هو قتل أكبر عدد من الجنود فحسب، بل قتل معنوياتهم، وكسر شعورهم بالأمان، وزرع الشك في كلّ خطوة على الطريق.
واليوم، تعيد غزّة إنتاج هذه القاعدة نفسها، وإنْ اختلفت الجغرافيا. ليس هناك غابات هنا، بل بقايا أحياء مدمرة. ليست هناك تلال ولا أدغال، بل أنفاق محفورة بدقة، تُفضي إلى ممرات ضيقة حيث تختفي التكنولوجيا وتبدأ المعركة الحقيقية: رجل في وجه رجل، إرادة في وجه ماكينة.
“إسرائيل” الغطرسة المتكرّرة
كما فشلت واشنطن في فهم طوبوغرافيا المعركة في فيتنام، تُكرّر “إسرائيل” الفشل ذاته. فهي تدخل جباليا، ثمّ تنسحب، ثمّ تعود لتدخل، وكأنها ترفض الاعتراف بأن السيطرة العسكرية لا تُترجم إلى سيطرة سياسية. وكما لم تنجح أمريكا في اجتثاث الفيتكونغ رغم آلاف الأطنان من القنابل، تعجز “إسرائيل” اليوم عن إخضاع غزّة، رغم قدرتها على
ارسال الخبر الى: