أحمد شوقي ورياض السنباطي وأم كلثوم وقفة على عرفة

١٠٠ مشاهدة
طلب خديوي مصر عباس حلمي الثاني حكم 1892 1914 من الشاعر أحمد شوقي مصاحبته إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج وعلى الرغم من أن الرحلة بـالمعية الخديوية تمثل حينها درجة عالية من التشريف الذي يطمح إليه الوجهاء والأعيان فإن هواجس معاناة السفر سيطرت على تفكير شوقي فظل مترددا لا يدري ماذا يصنع إذ لا يليق به وقد طلبه الخديوي باسمه أن يتخلف أو يعتذر وبعد وداع كبير في محطة مصر انطلق الموكب الرسمي حتى إذا فارق العمران وبلغ صحراء العباسية كان أحمد شوقي قد حسم أمره فانسل من بين القوم وقفل راجعا إلى داره لكنه أدرك أنه ارتكب ما يوغر صدر حاكم البلاد الذي قربه وأدناه وجعله من خلصائه فكان كل ذلك دافعا لينظم قصيدته الشهيرة إلى عرفات الله يمدح بها الخديوي ويعتذر له ويصف شعائر الحج بأبلغ صور البيان بعد أربعة عقود لحن رياض السنباطي أبياتا من القصيدة وشدت بها أم كلثوم لتصبح الأغنية إحدى العلامات الفنية الكبيرة المرتبطة بيوم عرفة وشعائر الحج والطواف وزيارة المدينة المنورة ولتصبح أيضا معلما من معالم الغناء الديني الذي شدت أم كلثوم بأعظم صوره وأجلها عبر تلك الشواهق الكبيرة التي أعلى صروحها رياض السنباطي جاءت قصيدة أحمد شوقي في 63 بيتا كان معظمها في مديح الخديوي ووصف رحلته إلى مكة والمدينة وكما هو معتاد أجرت أم كلثوم ومستشاروها عملية فرز وانتقاء وتعديل وتبديل أسفرت عن 25 بيتا كلها تتحدث عن مناسك الحج والأجواء الروحانية التي يعيشها الحاج في الأراضي المقدسة حذفت أبيات المديح الخالص مثل إذا حديت عيس الملوك فإنسهم لعيسك في البيداء خير حداة ثم عدلت بعض الكلمات التي تستثقل في الغناء مثل طهور الساح والعرصات التي أمست طهور الساح والشرفات أو التي قد تشير إلى شخص الخديوي مثل إذا زرت يا مولاي قبر محمد التي تغيرت إلى إذا زرت بعد البيت قبر محمد هكذا أصبح النص مختصا بشعيرة الحج مع ثلاثة أبيات فقط في أواخر القصيدة تتحدث عن الأحوال السياسية والتقدم العلمي وضرورة الاهتمام بالعمل لاستعادة الأمجاد القديمة لكن بعد الحفل الأول قررت أم كلثوم حذف هذه الأبيات الثلاثة من النص المغنى ويبدو أنها وفريق عملها خلصوا إلى أن الأبيات غير مناسبة للحالة الدينية الروحانية التي تشيعها معاني القصيدة نظم أحمد شوقي القصيدة عام 1910 وبويع بإمارة الشعر عام 1927 ورحل عن عالمنا عام 1932 من دون أن يستمع إلى شعره بصوت السيدة التي أخرت أول تعاملها مع كلمات شوقي إلى عام 1936 حين شدت بقصيدته في مدح صوتها سلوا كؤوس الطلا مع التغافل عن غنائها قصيدة عيد الدهر المعروفة بمطلعها الملك بين يديك في إقباله إذ نظمها أحمد شوقي في مديح السلطان محمد رشاد الخامس واختارت أم كلثوم أبياتا منها لتغنيها بمناسبة تولي الملك فاروق عرش مصر فهي إذن أغنية مناسبة سياسية لا بقاء لها وحين حان موعد إطلاق إلى عرفات الله عام 1951 كانت أم كلثوم قد شدت من قصائد أحمد شوقي سلوا قلبي ونهج البردة والنيل وولد الهدى وكلها كانت من ألحان رياض السنباطي تختلف المعالجة النصية التي أجريت لقصيدة إلى عرفات الله عن نظائرها من معالجات قصائد أحمد شوقي المغناة وتمثيلا غنت أم كلثوم 30 بيتا من نهج البردة جاءت انعكاسا لأجزاء القصيدة الثلاثة الغزل ولوم النفس والمديح لكن في إلى عرفات الله أدى الحذف والتبديل إلى تغيير الموضوع الأصلي الذي استغرق نحو ثلثي القصيدة وهو مدح الخديوي وتخليد ذكرى رحلته إلى الحج اعتذارا عن ترك صحبته استقر النص النهائي أمام رياض السنباطي قصيدة فصيحة عمودية من نظم أحمد شوقي موضوعها وجداني يتحدث عن أكبر شعائر الدين الإسلامي هذا ما يهواه السنباطي ويجيد التعامل معه يمكن لهواة تصنيف الأغنيات الطويلة مقاميا أن ينسبوا القصيدة إلى مقام الهزام إذ به بدأ اللحن وبه انتهى ويمكن لهواة التحليل النغمي أن يقولوا إن الأبيات الستة الأولى جاءت على مقام الهزام تلتها خمسة أبيات على مقام البياتي ثم ثلاثة أبيات بمقام الصبا فبيتان على البياتي ثم سبعة أبيات هي آخر القصيدة على مقام الهزام لا تكشف هذه الطريقة عن متانة الصنعة السنباطية ولا عن الجماليات المنثورة في تضاعيف اللحن والتي لا تحصلها إلا أذن حازت شروط الإنصات والانتباه وإن لم تحز شرط الدراية الموسيقية النظرية والإنصات يكشف عن أن إيقاع المقدمة هو المصمودي الكبير الذي يدخل المستمع سريعا إلى أجواء دينية إنشادية مع تأخير إيقاع الواحدة الكبيرة المعتاد في القصائد إلى بداية الغناء كما يكشف عن استهلال لحني هادئ يتصاعد تدريجيا في تؤدة ووقار وحرص شديد على متانة البناء التي تتضح معالمها مبكرا من قوة اللوازم الموسيقية ثم يكون أول تجلياتها في المقطع المكون من البيتين السادس والسابع فقوله وزمزم تجري بين عينيك أعينا من الكوثر المعسول منفجرات يأتي على مقام الهزام ثم يأتي قوله لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم لبيت طهور الساح والشرفات بمقام البياتي جاءت هذه القفلة البياتية واللازمة بعدها تمهيدا للبدء بالمقام نفسه من طبقة أعلى مع قوله أرى الناس أفواجا ومن كل بقعة إليك انتهوا من غربة وشتات وكان هذا التصعيد بليغا في خلق شعور بالارتفاع والنظر من مكان أعلى يسمح بمشاهدة جموع الحجيج حين يدخل اللحن إلى الجزء الأخير المكون من سبعة أبيات تتحدث عن زيارة قبر النبي محمد يعود السنباطي إلى مقام الهزام فيحوز فضيلتين الأولى هي التغيير بعد تسعة أبيات من البياتي والصبا وهو تغيير منطقي يوجبه الانتقال من مكة إلى المدينة ومن البيت الحرام إلى المسجد النبوي والأخيرة هي إقفال القصيدة بالمقام الذي استهلت به إعمالا لقواعد موروثة ومستقرة وترسيخا لقوة البناء ومتانة السبك يبدأ هذا المقطع من أول كلمة بأسلوب التوتير اللحني إذا زرت بعد البيت قبر محمد ويستمر التوتير الذي يعطي شعورا بخفقان القلب واضطرابه مع اقتراب الزائر من القبر النبوي ثم تأتي الانفراجة التي تمنح شعور الارتياح مع وصول الزائر إلى المواجهة الشريفة فقل لرسول الله يا خير مرسل أبثك ما تدري من الحسرات خلال عقود كثر الحديث عن التعبير اللحني حتى بلغ حد الابتذال وضربت له أمثلة في غاية الركاكة ما دفع بعض من يكتبون في الشأن الموسيقي إلى تجنب هذه الزاوية التي أمست غير لائقة إلا بالهواة على مواقع التواصل الاجتماعي لكن لا ريب في أن السنباطي قدم إلى هذه القصيدة لحنا متناسبا مع المعاني العامة للنص ونجح أيضا في خلق موسيقى متناسبة مع كل مقطع ولن يحتاج المستمع إلى جهد كبير ليدرك أن زائر القبر النبوي قد خفض صوته وهو يبث شكواه إلى الرسول شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات وخفض الصوت من أهم آداب الزيارة كما سنحت للسنباطي فرصة لم يفلتها ليعبر عن معنى السبات لتصدر اللفظة في حالة من الاسترخاء الناعس ثم جاء دور أم كلثوم التي يمنح صوتها القصائد الحسان معاني فوق معانيها ويهب الألحان أكبر أسباب خلودها وانتشارها أطلقت سيدة الطرب قصيدتها في ديسمبر كانون الأول عام 1951 بين جمهورها المحتشد في سينما راديو بوسط القاهرة انساب صوتها في جلال واستغراق آسر إلى عرفات الله يا خير زائر عليك سلام الله في عرفات سخرت طاقتها الصوتية الهائلة وقدراتها التعبيرية المعجزة لتقدم غناء من يعايش المناسك في لحظته ومن مواضع غنائها الجديرة بالانتباه أداؤها البيتين ويا رب هل تغني عن العبد حجة وفي العمر ما فيه من الهفوات وتشهد ما آذيت نفسها ولم أضر ولم أبغ في جهري ولا خطرات تكاد تذوب رقة ووهنا في الأول ثم ما تلبث أن تتفجر بالقوة والعنفوان في الثاني تتواطأ المصادر على أن المطربة نجاة علي غنت 14 بيتا من القصيدة عام 1949 وسجلتها للإذاعة بألحان السكندري المخضرم عبد الفتاح بدير وأن أم كلثوم حين أرادت أن تسجل القصيدة للإذاعة وكانت حينها نقيبة الموسيقيين احتاجت إذن صديقتها نجاة علي فأذنت لها لكن الزمن لم يأذن إلا ببقاء لحن السنباطي بصوت أم كلثوم في أوائل الستينيات ومع انطلاق التلفزيون المصري سجلت أم كلثوم الأغنية مصورة بتقنية التزامن الشفاهي LIP SYNC مع اختصار للنسخة الإذاعية التي سجلتها أوائل الخمسينيات والهواة وجامعو تراث السيدة يحرصون على سماع الأغنية من تسجيلاتها المحفلية الثلاثة المتاحة في المواقع الموسيقية محفل سينما راديو للمرة الأولى عام 1951 وهو مشتهر بمحفل المزاهر فقد استعان السنباطي فيه بعدد من ضاربي الدفوف ولم تتكرر التجربة في المحافل اللاحقة والثاني بمسرح حديقة الأزبكية في إبريل نيسان 1955 والثالث والأخير بدار سينما قصر النيل في يوليو تموز 1957 هرب أحمد شوقي من رحلة الحج بمصاحبة الخديوي فكتب قصيدته معتذرا ومارس رياض السنباطي هوايته مع قصيدة عمودية دينية وشدت مطربة العرب الكبرى هكذا جاء ذلك العمل الأيقوني الخالد الذي تستعيده الإذاعات والتلفزيونات العربية مع كل موسم حج وكل وقفة بعرفة وكل عيد أضحى عليك سلام الله في عرفات

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح