بعيدا عن صخب عالم السينما اليوم وكثافة الإنتاج والتنافس على الميزانيات الضخمة يقدم المخرج الألماني فيم فيندرز فيلما يتغنى بالصورة والشعر والموسيقى والأدب بعدما دعا مشروع طوكيو الفني فيندرز لزيارة طوكيو طوكيو الفني هو مشروع معماري كلف فيه عدد من المهندسين أنشأوا مجموعة مختلفة من التصاميم منها تصاميم جديدة لمراحيض طوكيو العامة إذ صمموا 17 حماما بلمسات جمالية خاصة في مواقع مختلفة من منطقة شيبويا وكان مقترح الزيارة هو تقديم فيندرز مجموعة من الوثائقيات لتغطية التصاميم وإظهار جماليات شيبويا ولكن المخرج الألماني غادر اليابان مع فيلم روائي يحمل عنوان Perfect Days جعل من الحمامات العامة وشيبويا خلفية جمالية لفيلم روائي شعري جديد وعاد الفيلم بفيندريز إلى مهرجان كان السينمائي هو المخرج الحائز السعفة الذهبية في العام 1984 عن فيلمه باريس تكساس Perfect Days صوت لو رويد نتتبع مع Perfect Days عزلة هيراياما تلك العزلة المثالية وسط صخب العالم المعاصر عزلة أشبه بقطع صلة الوصل مع الحاضر ليبقى عالقا في نوستالجيا الثمانينيات في شقته الصغيرة المستأجرة يستيقظ هيراياما أدى دوره كوجي ياكوشو عامل التنظيفات في مراحيض طوكيو العامة من دون منبه على صوت حفيف مكنسة عامل النظافة وسط نباتاته وشتلاته الصغيرة المرتبة بعناية والتي يفرغ لها غرفة ويخصصها بإضاءة خاصة تساعد النباتات على النمو يسقيها بعناية يتابع توضيب غرفته المكونة من أساسيات الحياة فراش للنوم ومصباح للقراءة ومجموعة كاسيتات قديمة وراديو وبعض الكتب المبعثرة ومجموعة من الصور الفوتوغرافية والقليل من الملابس يغسل وجهه وأسنانه يهذب ذقنه بعناية يحتسي قهوته الباردة من ماكينة جاهزة وينطلق بشاحنته ليمارس عمله بإتقان على أنغام موسيقى الثمانينيات والسبعينيات وكأن الصباح لا يكتمل من دون صوت لو ريد وهو يغني Just a Perfect Day يتناول طعامه في المطعم نفسه يوميا ويستحم في الحمام العام نفسه أيضا يغسل ملابسه من المغسلة نفسها ويستعير بعض الكتب والأشرطة من أماكن محددة مكتفيا بالقليل من الجمل التي يستخدمها لتبادل الحوار مع الآخرين وكأنه اعتنق الحياة كليا يعيش هيراياما على حافة عالم سريع يعج بالفوضى والعنف يعيش في قوقعة من الهدوء يقرأ وليم فوكنر ويستمع إلى تسجيلات مختلفة من الروك والجاز لباتي سميث ولو ريد ونينا سيمون وفرقة ذا أنيمالز يقتطع بعض الشتلات المبعثرة حول حواف الأشجار الكبيرة ويلتقط صورة فوتوغرافية بكاميرته الفوجي يوميا للضوء وهو يتسلل من بين أغصان الأشجار ينظف هيراياما حمامات طوكيو العامة وكأنه يعتني بقطع فنية أو يرتب مكانا عزيزا عليه يمارس عمله بحرفية وجدية إذ لا وقت للهو خلال ساعات العمل يتحمل إزعاج بعض مستخدمي الحمامات وتشتت زميله بالعمل الذي ينظر إليه نظرة ملؤها الشفقة والازدراء زميله الشاب الغارق في سعة هذا العالم وهمومه الذي يشكل نقيض هيراياما وكأن هيراياما بتقانته ونظامه وشكل يومه وحرفيته يقف ضد فوضى العالم المعاصر وسرعته في كل خطوة من يومه يخطوها بتأمل يعطي كل تفصيل وقته ينبش ويبحث عن الجمال داخل العموميات المتاحة لكل الناس مجرد تفاصيل لا يبدو أن شيئا قادرا على كسر روتين وعزلة هيراياما حتى الأحداث المقحمة التي قد تعكر صفو وحدته واستغراقه في يومياته تبدو أحداثا عرضية مثل زيارة ابنة أخته له التي لا تغير كثيرا من يومياته سوى أن تشتته قليلا عن تأملاته ومحاولاته للمحافظة على سيرورة يومه المثالي كما هو نقف مشاهدين مستغرقين مع يوميات الشخصية لنتساءل أهو فيلم شعري عن جماليات الحياة اليومية أم فيلم ينقب في اليومي لنبش الجمال وسط زحمة العالم اليوم هل علينا أن نتبع أحلام هيراياما ونعامله كرجل بسيط أو نحاول فهم رؤيته للعالم ولكن على النقيض تماما يقدم فيندرز مع Perfect Days عبر يوميات هيراياما سؤالا فلسفيا يحاول الإجابة عن أسئلة الوجود في أكثر الأزمنة الإنسانية فوضى وضياعا هيراياما وعزلته أشبه بحداد على الإنسان كما عرفناه فهو لم يقدم سببا مباشرا لخيار العزلة وشكل الحياة التي اختارها هيراياما وجعل هذه الأسباب كخلفية هامشية غير مهمة كما هي بالنسبة لهيراياما مثل مشهد قدوم أخته ومعرفة خلفية الرجل البرجوازية أراد فيندرز إبداء خصوصية لعزلة هيراياما تلك التي مكنته من إكساء العزلة سمات جمالية عالية سمات يتغنى بها كما الأغاني التي رافقته في الفيلم وتكثفت مع المشهد الأخير وظهور مشاعر هيراياما المتناقضة على أنغام أغنية نينا سيمون Feeling Good بدا وكأنه يقدم نعيا لجيل بأكمله ونعيا لجماليات باتت اليوم تعتبر تحفا وأنتيكات لا أكثر ثبات هيراياما ورؤيته للعالم أشبه بصراع خاسر صراع يشكل العزلة ومحاولة مقاومة أخيرة في وجه عالم ينسف الجماليات حتى يغدو هيراياما وأمثاله أشبه بتلك الصور التي يلتقطها وأشبه بالشتلات المبعثرة التي يجمعها مجرد تفاصيل هامشية غير مهمة تطوف في حياة متسارعة