كالفضيحة أو أشد
46 مشاهدة
توفيت أخيرا إحدى قريباتي بعد معاناة مع المرض لم يعرف أحد من العائلة حقيقة وضعها الصحي الذي حرصت أسرتها على إخفائه إلى آخر حياتها فظللنا حتى بعد وفاتها وكنا قد علمنا حقيقة مرضها نخفي اسم المرض أو نهمس به كأننا نمحو وجوده المشؤوم أو نخفيه عنها حفاظا على روحها المعنوية حتى وهي في القبر حتى الأحياء وغير المرضى لا يحبذون أخبار وفيات السرطان التي تثير الهلع حتى صار معظمنا يفكر في حتمية وفاة كل المرضى به مع أن كثيرات وكثيرين تعافوا وعاشوا عقودا بعدها لكن سمعته مرضا قاتلا وصمته ووصمت المرضى به فكرة الوصم هي جوهر كتاب الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ المرض استعارة التي ربطت عبرها بين مرضي السل في الماضي والسرطان في الحاضر ثم الانتقال إلى مرض لاحق معد وموضوع وصم أشد وهو الإيدز منذ البداية اقترن المرض الخطير بالسر مثل حالة السل عندما كان علم شخص ما قبل بضعة عقود أنه مصاب به معادلا سماعه حكما بالموت مثلما يحدث الآن مع السرطان لذا كان من الشائع إخفاء طبيعة المرض عن المصابين بل أصبحت تقاليد إخفاء مرض السرطان عن المريض وأسرته أشد مما كانت عليه تقاليد إخفاء مرض السل حسب سونتاغ جرت العادة في دول كثيرة أن يخفي الطبيب حقيقة المرض عن المريض ويكتفي بإخبار عائلته أما في أميركا فجل المرضى يعرفون مرضهم بسبب الخوف من الدعاوى القضائية يميل مرضى كثيرون إلى إخفاء طبيعة المرض طالما يمكن السيطرة عليه حفاظا على فرصهم في العمل والعلاقات العاطفية فمن يريد توظيف أو ترقية مريض محكوم بالموت بعد قليل ومن يريد تكوين أسرة مع من سيفقد بعد وقت من المعاناة رغم أن الحالة الصحية المؤدية إلى الوفاة يمكن أن تكون لأسباب كثيرة أكبرها القلب فمرضى القلب تقول سونتاغ لا يتم وصمهم رغم أنه مرض قاتل ويمكن أن ينهي الحياة في أي لحظة من دون حتى تحذير مع ذلك لا يقتصر الوصم على أمراض محددة فكل مرض هو في حد ذاته وصم حتى أنه خلال القرن التاسع عشر أصبحت استعارات المرض منافية للعقل لتسمية أي وضع مستهجن بالمرض فكتب هوغو في البؤساء الرهبنة مثل التي توجد في إسبانيا والتيبت هي نوع من السل بالنسبة للحضارة لأنها تنهي الحياة ووصف غرامشي المثقفين الباهتين وقليلي التأثير في المجتمع بأنهم أكثر ضررا على الحياة من السل أو ميكروبات السيفيلس واستعملت استعارة المرض في الفلسفة السياسية لتقوية الدعوة إلى الاستجابة العقلانية وركز ميكيافيلي وهوبز على ناحية واحدة من الحكمة الطبية أهمية إيقاف المرض الخطير في وقت مبكر لعلاجه على العكس كل ما هو جميل يوصف بأنه صحي حتى الشعر كما فعل الكاتب الروسي أوسيب مانديلستام في مدحه شعر مواطنه الأشهر بوريس باسترناك الذي تشبه قراءته تنظيف الحنجرة من الشوائب لأنه شعر صحي ولأن المرض هو الجانب المظلم من الحياة يولد كل شخص مواطنا في مملكة الأصحاء ويولد أيضا في مملكة المرضى لذا بلغ سعي الإنسان إلى حماية نفسه من المرض حد اتخاذ إجراءات جذرية ضد من يعتبرون خطرا لأنهم مصدر العدوى وأولهم الأجانب وكان لفترة انفجار وباء الإيدز سبب أبرز حالات الفزع والعنصرية ضد الأجانب مصدر العدوى المفترض لكن بعد عقود من تأليف الكتاب عام 1987 نعرف أن ذلك كله لا يمثل شيئا مع ما رأيناه مع الكوفيد اللئيم من العنصرية والإغلاق ومنح الأغنياء والشباب الفرصة في العلاج وإغلاق الحدود مع دول بعينها باعتبارها مصدرا للخطر ولم يمنع ذلك كله من انتشار الوباء كما اشتهى تورد سونتاغ مثالا شبيها من الحرب العالمية الثانية حين سجنت ثلاثون ألف مومس من أجل حماية الجنود من عدوى السفليس لكن ذلك لم يوقف العدوى من الانتشار يساعد كتاب سونتاغ وقد ألفته بعد تشخيصها بمرض السرطان على فهم تعامل الإنسان مع الأمراض هذه الكائنات الأخطر على وجه الأرض التي تتسلل إلى جسده فتقرر مصير حياته وكثيرا ما يقف عاجزا أمامها حتى لو كان أغنى الناس أو أكثرهم نفوذا