عزمي بشارة تفكير آخر في الدولة

54 مشاهدة
في كتابه الصادر مؤخرا مسألة الدولة أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2023 يقدم عزمي بشارة تأريخا لنشوء الدولة وتطورها وتحليلا لبنياتها وعلاقاتها المتشابكة بالقومية والمجتمع وبأشكال السلطة السابقة على الحداثة منفتحا على الفلسفة السياسية والنظرية السياسية والعلوم الاجتماعية وفلسفة الأخلاق وهو ما يميز أغلب كتابات صاحب المجتمع المدني دراسة نقدية 1996 وعيا منه بتعقيد الظاهرة وبالحاجة إلى تضافر تخصصات مختلفة للإحاطة بها وتسليط الضوء على منطق اشتغالها لا أسعى في هذا المقال إلى الوقوف عند الجهد التأريخي الذي يميز أكثر من عمل للمفكر العربي والذي سيجعل من هذا الكتاب مرجعا لا مندوحة عنه بالنسبة إلى كل مشتغل بالدولة في السياق العربي كما هو حال كتبه السابقة عن المجتمع المدني والعلمانية والطائفية والسلفية ولكن ما أريد أن أتوقف عنده بالأساس هو تلك الأفكار والنظريات والنقاشات التي يزخر بها هذا الكتاب والتي يمكن أن تساعدنا في فهم الدولة العربية المعاصرة والوقوف على لااكتماليتها بتعبير علي المزغني أو على ذلك الطلاق البائن والمستمر بين الدولة العربية والمجتمع المدني في تحليلات علي أومليل أو استحكام الغلبة والتناوب بها وما يعنيه ذلك من غياب أو تغييب للحرية بنظر عبد الله العروي وعلى الرغم من أن عزمي بشارة لا يلتفت إلى واقع الدولة العربية في كتابه إلا بشكل شذري إلا أنه يقدم لنا في قراءته لتحولات ومآلات دولة الحداثة مدخلا أساسيا لدراسة الدولة في السياق العربي هو الذي يعبر عن نفسه في مفهومي السيادة والمواطنة فإلى هذين المفهومين يمكننا أن نعيد الجهد النظري للكتاب أو كما يؤكد صاحبه منذ مقدمته لا يمكننا أن نفهم الدولة الحديثة أو أن نعرفها في استقلال عن المواطنة والتي يفهمها باعتبارها الوجه الآخر للسيادة ولا يمكننا أن نفهم الدولة العربية إلا باعتبارها نقيضا لدولة الحداثة التي فصلت جسد السلطة عن جسد الدولة وربطت بين الحاكم والمحكوم ورهنت السيادة بالقانون ونحن لا نخطئ حين نحاول فهم الدولة العربية واشتغالها من خلال هذه المقارنة فلقد سبقنا كلود لوفور إلى فهم النظام الديمقراطي من خلال مقارنته بالنظام التوتاليتاري الحديث أو النظام الملكي السابق على الحداثة مرجع لا غنى عنه لكل مشتغل بالدولة في السياق العربي ويظل الفرق المركزي بين الدولتين العربية والديمقراطية حتى لا أقول الحديثة لأن الدولة العربية هي أيضا بنت الحداثة وانعكاس لتطوراتها وتناقضاتها مرتبطا بالدور والمكانة التي تحتلها المواطنة في كل منهما يكتب عزمي بشارة بأن المواطنة هي التعبير المعاصر والأرقى عن سيادة الدولة بمعناها الحديث وتنشأ من تحول الشعب من رعية للحاكم إلى جزء من الدولة التي ينتمي إليها الحكام والشعب ويصبح أفراده أعضاء فاعلين في الدولة ذوي حقوق وعليهم واجبات وليسوا مجرد موضوع للسلطة قبل نشوء مجموع المواطنين كانت الدولة هي السلطة فحسب ولا بد من التأكيد هنا مع عزمي بشارة بأنها مواطنة فردية وليست عضوية مرتبطة بجماعة أو جماعات فالمواطنة كما يقول هي عضوية في الدولة وتظل مرتبطة بحقوق وواجبات وليس بانتماءات سابقة على الدولة والمجتمع وإلى جانب المواطنة أو السيادة باعتبارها مواطنة فإن التمايز بين السلطة والدولة ميسم أساسي للدولة الحديثة وهو ما يسميه كلود لوفور المكان الفارغ للسلطة فالسلطة متغيرة والدولة باقية علاوة على احتكار الدولة للعنف الشرعي كما يؤكد ماكس فيبر وما يمثله ذلك من تجاوز لاستحكام العصبيات والطائفيات بالسلطة السياسية حتى أنه يمكننا القول بأن الدولة الحديثة من أكبر تجليات صيرورة العلمنة لأنها لم تفصل السلطة عن الكنيسة فحسب ولكن فصلتها أيضا عن الجماعات الإثنية أو حتى عن القومية وإن ارتبطت في نشأتها التاريخية بالقومية أو بالأحرى بقومية متخيلة كما يذكر بشارة إلا أن تطورها سيتجاوز تلك القومية أو ذلك الانتماء الضيق باتجاه انتماء كوني يقوم على ارتباط حر بالدستور لا يمكننا تعريف الدولة الحديثة في استقلال عن المواطنة تختلف الدولة الحديثة في صيغتها الديمقراطية عن الدولة الأبوية التي انتقدها إيمانويل كانط لأنها لا تسمح لمواطنيها بالنضج أو لأنها ببساطة تحرمهم من المواطنة وتطبع تلك الأبوية السياسة والمجتمع والعلاقات بين الحاكم والمحكوم بل وبين المحكومين أنفسهم في السياق العربي كما يؤكد جورج طرابيشي وكانط في رفضه للدولة الأبوية يظل منسجما مع تصوره الديمقراطي عن التنوير وينتصر لا ريب لروسو على هوبز لأنه يرفض الحكم المطلق إن الدولة الأبوية تعطل المواطنة لأنها لا تقوم على شرعية قانونية وهي بذلك تعطل السيادة أيضا ففي رأي الحقوقي الليبرالي كيلزن لا يمكن تسمية الدولة بصاحب السيادة إلا بوصفها نظاما قانونيا وذلك لأن مفهوم سيادة الدولة دون سيادة القانون هو مفهوم خطير وهو ما يدافع عنه بشارة على طول صفحات الكتاب إن الدولة الديمقراطية قوية بمؤسساتها وقوانينها وبمجتمعها القوي في حين تضعف دولة الاستبداد وإن تغولت وهي تعطل الانقسام الاجتماعي بتعبير لوفور وهو ضعف يستبد بمجتمعها أيضا فأبويتها من أبوية المجتمع وامتداد له أو لهذا المجتمع غير المكتمل المؤجل باستمرار والذي لم يتحرر من ربقة الجماعة وانتماءاتها الضيقة المعادية للفرد وحريته والتي تعطل الانتقال من الجماعة إلى المجتمع إذا ما تذكرنا تحليلات هيلموت بليسنر مثلا أو حتى هشام شرابي كما تعطل الانتقال من السيادة إلى المواطنة يكتب بشارة إن تحويل الجماعات إلى كيانات شبيهة بالمواطنين يحولها من جماعات تمارس وظائف اجتماعية حيوية ووسيطا وقائيا محتملا بين الدولة والفرد إلى عائق يحول بين الفرد وممارسة مواطنته ولا تتحقق تلك العلمنة للسيادة أو تحررها من مضمونها اللاهوتي إلا كسيادة تقبل القسمة كما يوضح دريدا في رده على شميث وبلغة أخرى إلا في تحررها من منطق الأخواتية Fraternocratie أو من ذلك الأخ الذي يصنع السياسة والقانون والمجتمع ذلك أن السيادة في مفهوم كارل شميث ليست أكثر من استمرار للمفهوم القروسطي ولم يخالف الصواب من كتب بأن تطور الدولة نحو الاكتمال إنما يقود من السيادة المطلقة إلى السيادة النسبية تخشى الدولة العربية من تطور المجتمع المدني فتقوم بتعطيل حركته وتشتيت قواه فتفرغ الأحزاب من مضمونها وتحرمها من دورها وتحيي النعرات القديمة وتؤلب الطوائف أو الإثنيات بعضها على بعض وفي أحسن الأحوال هي تتحقق بتعبير آيزنشتات كنيوباتريمونيالية Neopatrimonialism وهو ما يجد بشارة نموذجه الأمثل في دول المحاصصة الطائفية بالعالم العربي وإن كنت أرى أنه ميسم الدولة العربية ككل وفيما يدعو عزمي بشارة إلى التمييز بين السلطة الحاكمة والدولة في العالم العربي فإن كاتب هذه السطور يرغب في نقاش هذه الأطروحة والاختلاف معها فالدولة أو مؤسساتها المتمثلة في الجيش والجهاز البيروقراطي مرتبطة عضويا بالسلطة الحاكمة بل هي مجرد امتداد لها وتطبيق لسياستها وهي ليست مؤسسات بالمفهوم الحديث ولكنها مؤسسات الواجهة والاستهلاك وعودة الديكتاتورية بعد الربيع العربي تحققت من خلال تلك المؤسسات التي نطلب المحافظة عليها وليست فقط السياسية منها مثل مؤسسة الجيش في مصر بل والمؤسسات الاجتماعية مثل مؤسسة الأسرة أو المؤسسة الدينية إن الدولة في السياق العربي أو مؤسساتها هي حاملة وحامية السلطوية ولهذا برأيي فإن الانتقال نحو الديمقراطية في السياق العربي لا يستدعي فقط تغيير السلطة الحاكمة بل وتغيير مؤسساتها رغم الكلفة الباهظة لذلك وفيما وراء ذلك تغيير الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة ذلك أن الأمر لا يتعلق بمؤسسات أصابها التصحر Erosion بلغة هيغل أو الموت Entlebendigung أو الفراغ Entleerung بل هي مؤسسات ولدت بعلة موت أو مؤسسات ولدت في رحم السلطوية مؤسسات تشتغل ضد منطق المؤسسات الحديثة وعقلانيتها تتغير السلطة وتظل الدولة في ظل سياق ديمقراطي أما سياق السلطوية فهو لم يعرف الدولة لأنه لا يعرف المواطنة إنه سلطة فقط أو هي السلطة ضد الدولة يرى أن سيادة الدولة دون سيادة القانون مفهوم خطير وتبقى من أهم النتائج التي انتهى إليها عزمي بشارة في تفكيره بالسيادة أن المواطنة مكون في مفهوم الدولة الحديثة أما القومية فليست مكونا من مكونات مفهوم الدولة الحديثة وتبرز أهمية هذا الطرح حين نعرضه على السياق العربي والذي على امتداد عقود ظل يشهر ورقة القومية ضد المواطنة ويعطل دولة الحق والقانون باسمها إن استمرار القومية في الديمقراطية أو ربطها بانتماءات متخيلة أو سابقة على الحداثة سينحط بها كما يوضح بشارة إلى إثنوقراطية أو بلغة التفكيكية إلى مونوديمقراطية ولعل نموذجها الأمثل اليوم هو الجمهورية الفرنسية بعلمانيتها المتطرفة وهنا يصبح من الضرورة أن نطرح سؤال العلاقة التي يتوجب على الديمقراطية أن تقيمها مع ماضيها ولنقل مع القومية فالديمقراطية الليبرالية كما يدافع عنها هابرماس تقوم علاقتها بالماضي على النقد والتجاوز والانتماء بداخلها لا يتحقق إلا باعتباره انتماء إلى دستور أو ما يسميه دولف ستيرنبيرغر بالوطنية الدستورية في حين ستقوم المونوديمقراطية بتمجيد ماضيها الحقيقي أو المتخيل كما الحال في فرنسا مع ما يخلفه ذلك من شروخ مجتمعية ولم يبالغ تلميذ هابرماس يان فيرنر مولر وهو يؤكد في كتابه المهم الوطنية الدستورية بأن إخفاق فرنسا في التعامل مع ماضيها الاستعماري وصمتها عنه يفسر أيضا فشل سياساتها في الاندماج مسألة أخيرة أريد أن أتوقف عندها في هذا المقال وهي تلك المتمثلة في تحذير عزمي بشارة من إسقاط النقاش الفلسفي الغربي مثل النقاش الدائر بين الليبراليين والجماعاتيين على السياق العربي ذلك أن مثل هذه العملية من شأنها أن تحجب عنا الأسئلة الملحة للواقع السياسي العربي والتي وإن كانت الفلسفة الغربية ضرورية لفهمها إلا أنها تظل بتعبير المؤرخ الهندي ديبش شكربارتي متحدثا عن الهند غير كافية باحث وأستاذ فلسفة من المغرب

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2025 يمن فايب | تصميم سعد باصالح