غابو للمرة الأولى

٦٢ مشاهدة
في طفولتنا وفي زمان يبدو غير الزمان كانت مكتبات استعارة الكتب تملأ شوارع البلاد كانت في شارع بيتنا بأم درمان مكتبتان تعلمنا منهما استعارة الكتب المستعملة من الرفوف المكتظة بالكتب القديمة التي غالبيتها بلا أغلفة لم تستمر هذه الحياة طويلا في العام 1989 جاء الإسلاميون إلى السلطة على ظهر الدبابات نفذوا انقلابا عسكريا على الحكومة المدنية المنتخبة وأسقطوا النظام الديمقراطي ليؤسسوا دولة المشروع الحضاري كان أكثر أهداف هذا المشروع أهمية إعادة صياغة الإنسان السوداني فأغلقت المكتبات العامة وطوردت الكتب والمجلات ومنع دخول عناوين كثيرة إلى البلاد حتى الكتب الشخصية التي يحملها المسافرون العائدون إلى البلاد كانت تخضع للتفتيش في المطار ويصادر منها ما لا يعجب الأجهزة الأمنية في هذا الجو البوليسي المخيف بدأنا نبحث عن مكتبات بديلة من تلك التي أغلقت واحتاج الأمر منا بضع سنوات قبل أن نكتشف منجم الكتب المستعملة في ميدان البوستة في أم درمان بعض مكتبات نجت بشكل ما من المصادرة والمطاردة أغلبها تعرض كتبا دينية أو مدرسية لكن بين كل مكتبتين تختبئ مكتبة ثقافية تعرض كتبا أدبية قديمة في وسطها اكتشفت مكتبة تمدني بما أحب مصادفة عرض صاحب المكتبة أن يعيرني رواية سرد تفاصيل موت معلن لم أبد حماسة لكني أخذتها في طريق العودة إلى المنزل بدأت تقليب الرواية قليلة الصفحات فاختطفتني الجملة الأولى كانت تلك البداية مع غابرييل غارسيا ماركيز غابو صاحب الحكايات دلفت إلى قصة سانتياغو نصار وفي المواصلات العامة بدأت أقرأ هذه القصة المجنونة التي لا تشبه أي شيء قرأته من قبل ولما نزلت في محطتي ما استطعت أن أرفع عن الصفحات عيني فمشيت في الشارع وأنا أقرأ بعين وأنظر إلى الطريق بأخرى كان ذلك سحرا أو كالسحر تسربت الحكاية صفحة فصفحة وعرفني ماركيز إلى عالم لم أتخيل أنه موجود كلمة فكلمة لم أحتج أكثر من تلك الصفحات لأعلن ماركيز منذ ذلك اليوم وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات أكثر من قرأت لهم أهمية عندما وصلت إلى صفحات النهاية وجرى نصار ليحتمي بمنزله فأغلقت أمه الباب في وجهه وتركته لطعنات الأخوين فيكاريو عرفت للمرة الأولى الشعور السحري الذي عبرت عنه بعد سنوات الروائية المصرية منصورة عز الدين تلك اللحظة السحرية التي تلتئم فيها الخيوط وتسد فيها الثغرات كأنما من تلقاء نفسها كل شيء يبدو مخططا ليقود إلى هذه اللحظة العظيمة كان ماركيز يجهز المسرح لهذا المشهد حدث هنا ومشهد هناك في سرد غير خطي لكنه يقود للحظة ذروة عظيمة وعند السطر الآخير من الرواية كنت قد عرفت معنى جديدا لمتعة الأدب في اليوم التالي كنت أعود إلى مكتبة الاستعارة أحمل الرواية التي قرأتها مرتين ومعها بدل الإيجار ومن دون كثير كلام ناولني صاحب المكتبة مائة عام من العزلة لم أجادل ولم أسأل كان بيننا الآن تفاهم صامت لقد علم أن السحر قد أصابني وعلمت أن هذا الرجل سيصبح صديقي أعني غابو هذه الصداقة التي بدأت مصادفة في النصف الأخير من التسعينيات لم تنقطع حتى في رحيل غابو لم يهمني أنه لا يعرفني ولا يعرف أننا أصدقاء معرفتي أنا ذلك كانت كافية ربما لذلك شعرت بشيء من الإهانة لصديق عندما عرفت خبر صدور رواية نلتقي في أغسطس التي طلب غابو حرقها لكن ورثته قرروا نشرها شعرت أن هذه خطيئة في حق صديق إننا نتلصص على مسودات لم يحب أن يطلع عليها أحد لم أعتبر ذلك حقا أدبيا للجمهور في أن يطلع حتى على مسودات ومخططات واحد من أهم الروائيين عبر التاريخ شعرت بأن الأمر شخصي جدا وأن أبناء صديقي لم يحترموا رغبته

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح