سيدة وكلبة وبجعة عمياء

٤٢ مشاهدة
فتحت السيدة أولغا باب المطبخ ورأت المطر وعلى الرغم من أنه كان واضحا من خلف زجاج الباب إلا أنها أرادت أن تتأكد وربما أيضا أن تشم تلك الرائحة المشبعة بنسيم مبلل وأن تختبر الطقس أمام حديقة المنزل الصغيرة الداخلية بحواسها وليس بالتخمين فقط أن ترى المطر مباشرة ليس كما لو أنك تراه من خلف زجاج أو أن تسمع عنه أو أن تبحث عن أحوال الطقس في هاتفك فقط إنه يوم دافئ رغم أن المطر سيتساقط دون توقف كما يبدو فوق كل هذه الضاحية النائية الأيام رخوة ومبللة وعصارة القهوة الكهربائية أفرزت آخر قطرتين في فنجان الأطفال الكبير المزوق بأرانب ضاحكة وقد كفت عن زعيقها الهادر كجرار معطل لا تحلي أولغا قهوتها الصباحية بالسكر بل بملعقة عسل صغيرة جاءت الكلبة آنا وطالبت بإفطارها مع بعض التودد الصبياني لأولغا محركة ذيلها يمينا وشمالا وعاليا كما لو أنها يد شخص تودع إنها كلبة عجوز وهذا واضح جدا حتى لمن ليس لديه معرفة بعالم الكلاب العجز لا يحتاج معرفة إنه واضح كإفلاس في البشر كما في الحيوانات والنباتات كلبة عجوز إلا أنها ما زالت تتصرف كرضيع وما زالت تلعب وتتقافز وتنط وتتمسح بالضيوف وتقصد كلابا أخرى في الحديقة لتتشممها ومن ثمة تركض مطاردة غصنا تقذفه السيدة أولغا بعيدا تعض الغصن بلطف بين فكيها المترهلين ثم تعود به إلى أولغا في تملق معهود تضعه أمام قدميها وتنتظر بتحفز تحمل أولغا الغصن من جديد وتقذفه بعيدا وبصعوبة كل مرة فالسيدة أيضا عجوز إلا أنها كآنا تماما ما زالت تحتفظ بلياقتها مواظبة على عادة التمشي كل يوم كيلومترا كاملا على الأقل من بداية المتنزه إلى نهايته في مسار دائري مفعم بالهدوء والشساعة والهواء النظيف إلا أن السيدة أولغا قذفت الغصن هذه المرة عمدا داخل بحيرة تمثال البجعة العمياء وهو الاسم غير الرسمي للبحيرة والذي أطلقته عليها أولغا بعد أن لاحظت بينها وبين نفسها أن تمثال البجعة الصغير الفولاذي المقابل للبحيرة بلا عينين أرادت تشجيع آنا على الاستحمام من أجل بعض النظافة والانتعاش حدث هذا ذات بعد ظهر بعيد حين كان الطقس صحوا لم تتشجع آنا كثيرا رغم أنها اقتربت من ضفة البحيرة بجد كامل بل غاصت قائمتاها الأماميتان فعلا في المياه الداكنة الباردة والمنعشة ما حفزها أكثر على أن تتجرأ وتقتحم الماء إلا أنها لم تفعل ظلت تحدق في أولغا بحيرة كما لو أنها تطلب مساعدة أو ما شابه اكتفت أولغا بمخاطبتها بصوت عميق متهدج وباقتضاب يبدو ذلك مستحيلا عزيزتي آنا فلنعد إلى البيت حسنا العجز لا يحتاج معرفة إنه واضح كإفلاس في البشر كما في الحيوانات والنباتات هذا اليوم هو يوم القداس إضافة إلى ضرورة أخذ آنا إلى طبيب بيطري من أفراد العائلة لقد هاتفته أولغا الليلة المنصرمة بعد أن لاحظت تقرحات واضحة على مستوى بطن آنا تقرحات لم تعرف أولغا من أين أتت ولا متى راعها ما رأت وأرعبها حسنا لا بأس طمأنها الطبيب عبر الهاتف إنها تقرحات عادية بالنسبة إلى كلبة جميلة ومسنة كما قال لأولغا عبر الهاتف إلا أن هذا لا يمنع أن أراها غدا قاطعته أولغا أوه يا إلهي ولكن حسنا غدا هو يوم عطلتك يا عزيزي أجاب الطبيب الشاب لا عليك سأرى الكلبة هذا ضروري لن نترك الأمر إلى يوم آخر سأمر عليك صباحا عند العاشرة لنرى ما سنستطيع عمله موافقة تنهدت أولغا حسنا عزيزي اتفقنا آمل فقط أن لا يصيبها مكروه أنت تعرف كل شيء إنها آنا أعادت أولغا فتح باب المطبخ من جديد وواصلت التحديق في المطر بينما ظلت آنا في الداخل تنعم بدفء الغاز قرب أنابيب التدفئة البيضاء البارزة من جدار نهاية المطبخ لا شيء يغريها بالنظر إلى أمطار رتيبة ولا شيء يحفزها على البلل حسنا قالت أولغا وهي تقول هذه الكلمة تقريبا إزاء كل شيء مفتتحة بها كلامها حتى حين لا يكون لها لزوم أو معنى حسنا فلنستعد سيمر علينا بيتر بالسيارة بعد قليل كوني جاهزة أنت كلبة لابرادور رائعة تعالي إلى هنا لأتفقد بطنك ردت الكلبة بدمدمة شبيهة بالأنين مألوفة وتقصد بها أنها تعرف أن أولغا تخاطبها شخصيا وأنها تفهم ما تقوله طبعا وأنها تجيبها بتأدب جم بادئة دمدمتها دائما السيدة أولغا ودون رفع للكلفة طبعا عادت أولغا إلى الداخل وواصلت احتساء قهوتها قالت متنهدة إن بيتر سيمر بعد قليل إلا أن العاشرة ما زالت بعيدة إنها السادسة والنصف صباحا بالكاد ثم واصلت احتساء قهوتها بينما مدت آنا عنقها أرضا وأغمضت عينيها مستسلمة للدفء واكتفت طيلة خمس دقائق بتحريك أذنها فقط كلما أحدثت أولغا صوتا وهي أصوات قليلة بين كحات وتنهدات وقرقعة للفنجان الضخم فوق رخام المطبخ عند التاسعة بالضبط كانت أولغا قد ارتدت ثيابها وسرحت شعرها القصير وزينته بوردة كبيرة من الدانتيل لونها أزرق سماوي وتعطرت ثم نزلت من جديد إلى المطبخ بتنورتها الواسعة متدرجة الانثناءات طوليا كمروحة يدوية وتفقدت ساعتها من جديد وبدا أن الوقت لا يمر حسنا لقد توقف المطر وهذا جيد قالت أولغا مخاطبة آنا التي يظهر أن شيئا كهذا لا يعنيها كثيرا حسنا سأصعد لأتصل ببيتر عزيزتي سأطلب منه المرور علينا إلى الكنيسة سنجعله يصلي قالت ثم ضحكت ونظرت إلى الكلبة كما لو أنها تنتظر منها أن تضحك هي الأخرى أن ترى المطر مباشرة ليس كما لو أنك تراه من خلف زجاج أو أن تسمع عنه أو أن تبحث عن أحوال الطقس في هاتفك فقط بعد ساعة كانت أولغا داخل الكنيسة بينما آنا عند الباب تنتظر بتأدب رفقة كلاب أخرى إنها العاشرة وبيتر لم يصل بعد العاشرة والنصف ولم يصل حسنا هذه مشكلة كبيرة قالت أولغا عند باب الكنيسة والكلبة مقعية عند قدميها تلهث مادة لسانها كما لو أنها أنهت ماراتونا طويلا بالكاد تقدمت أولغا ببطء وتبعتها آنا بعد أن فكت رباطها قررت أن تعود إلى البيت لتتصل ببيتر الطريق المختصرة تمر وسط المتنزه تفقدت السماء بنظرات طويلة وخمنت أنها لن تمطر قبل ساعة أو أكثر على الأقل بلغت السيدة أولغا بحيرة تمثال البجعة العمياء وآنا خلفها تسير بإرهاق ملحوظ بالنسبة إلى آنا المرور بالبحيرة يعني التنزه وليس السرعة من أجل أمر لا تدركه حدقت السيدة أولغا في المياه التي تمر تحت الجسر الصغير الذي يعبر فوق قناة مائية عريضة توازي البحيرة كانت المياه تتدفق بسرعة وقوة كما مارس صوت الخرير على سمعها ما يشبه السحر إنها سيدة عجوز رغم كل أناقتها وثباتها واستقامة مشيتها آنا بدورها حدقت في المياه متشبهة بأولغا ما الذي دها أولغا بالضبط لتظل تحدق في المياه بتلك الطريقة لا أحد يعلم بالضبط فللشيخوخة أطوارها الغريبة لقد شعرت أولغا بنبضات قلبها تتسارع وبعرق خفيف وبدوخة يحدث معها هذا الأمر مرارا لكن ليس كما تحسه الآن وليس هنا بالضبط إنها في حاجة إلى الجلوس لكن أين وكيف إنها تفقد السيطرة على نفسها وتسقط لقد سقطت أرضا بالفعل والمتنزه فارغ فارغ تماما نصفها في اتجاه القناة ونصفها فوق الجسر ويدها متمسكة بالدرابزين الخشبي المتهالك وآنا تطوف حولها غير مدركة ما يحدث إنها تقاوم ممسكة بعمود درابزين الجسر السفلي ثم ها هي تسقط في المياه كمرساة تقذف في نهر تسقط وتختفي وتظل فقط وردة الدانتيل الكبيرة طافية قليلا قبل أن تختفي هي الأخرى لقد سقطت وانتهى الأمر كما لو أنه لم يحدث يبدو ذلك كوميديا أو تراجيديا يمكنك فهمه كما تريد لكن حسنا كما كانت تقول حسنا ذلك هو ما حدث لقد سقطت أولغا في القناة وانتهى الأمر وانتهت الاحتمالات والتخمينات ولا أحد كان سيتوقع ذلك أبدا إنه غير منطقي تقريبا وغير مفهوم إلا أنه وقع حتى الشرطة نفسها لن تصدق الأمر بسهولة أغمي عليها عند الجسر الصغير التافه وهي تحدق في تدفق المياه السريع وسقطت آنا لم تفهم شيئا بالنسبة إليها لقد اختفت أولغا فقط كما لو في لعبة تخف غير مسلية أطلت على المياه متشممة خشب الجسر ومحركة ذيلها بحيرة لم تعرف ما الذي عليها فعله ما المطلوب منها بالضبط وماذا يجب أن تفعل لقد فهمت أن أولغا سقطت في المياه حسنا ولم تعد تظهر حسنا والأكيد هو أن المياه جرفتها بعيدا لكن ماذا يعني هذا بالضبط تشممت الكلبة رائحة أولغا فوق خشب الجسر وحدقت لحظة في المياه الهائجة والسريعة للقناة حيث لا يسمع شيء سوى خريرها الجبار المتواصل والذي سيحرك دون شك بكفاءة عالية طواحين مائية كثيرة في البعيد أخيرا عرفت آنا ما الذي عليها فعله بغريزتها عرفت ذلك بعد عملية تفكير معقدة ومجهولة ركضت آنا مبتعدة عن الجسر ثم بعيدا عن القناة ركضت بعيدا بتحفز رغم الشيخوخة والعجز والتقرحات ركضت بهمة ركضت كما لو أنها كلبة شابة ومطيعة ركضت في اتجاه بحيرة تمثال البجعة العمياء التي تبعد عن القناة بمئتي متر فقط ركضت دون تلكؤ كما لو أنها في مهمة مصيرية بإيعاز من أولغا لجلب الغصن أو كما لو أنها تركض في اتجاهها في اتجاه أولغا بلغت الضفة أخيرا ويمكن القول إنها لم تتردد أبدا هذه المرة وهي تغوص داخلها لم تتردد أبدا رغم الشيخوخة والطقس السيئ وكل شيء وبعناء شديد وبهمة كبيرة سبحت بعيدا وسط المياه الداكنة والثقيلة وهي تلهث على مرأى من البجعة العمياء ثم غاصت عميقا عميقا جدا بحثا عن الغصن بينما ظلت البجعة محدقة في الماء بمحجريها الفارغين منتظرة صعودها

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح